اوراق مختارة

الغابات تتعرّض للاستنزاف مع غياب خطط حكوميّة للتدفئة

post-img

ربى أبو فاضل (جريدة الديار)

في القرى الجبلية اللبنانية، حيث يغيب التيار الكهربائي لساعات طويلة وتكاد تنعدم القدرة على شراء المازوت والغاز بسبب ارتفاع أسعارها، ومع اقتراب فصل الشتاء يجد آلاف اللبنانيين الرازحين تحت أسواء أزمة اقتصادية ضربت البلاد منذ 2019، أنفسهم أمام معادلة مستحيلة، إما الامتثال للقانون ومواجهة البرد، أو كسر القانون وحرق الأخضر واليابس لتدفئة بيوتهم، فيما تبقى الدولة غائبة عن تأمين بدائل حقيقية للتدفئة.

فعلى أبواب الشتاء يعيش اللبناني بين برد يهدد عائلته وقانون لا يراعي حاجاته، وبين دفء غير شرعي وبرد قاتل، تبقى الغابات "الحطب الوحيد" الذي يحترق على مذبح الأزمات، فتدفع الأشجار والفقراء ثمن عجز المنظومة، فأبو جورج وهو من أبناء قرى البقاع الشمالي يؤكد أنه يعلم أن قطع الأشجار ممنوع لكن "لم يبق أمامنا سوى الحطب فأولادي في فصل الشتاء يرتجفون من البرد"، مضيفاً "المازوت صار حلما، والغاز أغلى من أن نشتريه".

أما مريم، أم لثلاثة أطفال، فتختصر معاناة معظم اللبنانيين في المناطق الجبلية: "قبل الأزمة كنا نشتري المازوت بالكاد، اليوم ننتظر مساعدات المنظمات، لكن لا تصل إلا نادراً، فاضطر زوجي أن يقطع من الأحراج لتأمين التدفئة لنا"، مضيفة "نحن نكسر القانون مكرهين".

كريم يعبر عن قلقه من عدم قدرته على تأمين كمية كافية من الحطب بعد أن وصل سعره إلى معدلات قياسية: "خلال هذا الوقت من العام، يصل سعر الحطب إلى ذروته، وكل ما يهم المواطن هو الحصول على حطب بسعر مناسب يكفيه طوال الشتاء، بغض النظر عن مصدره القانوني".

من جهته يؤكد علاء وهو تاجر للحطب منذ 7 سنوات، كان موظفا في إحدى الشركات الخاصة قبل أن تغلق بسبب الأزمة الاقتصادية، أنه لا يستطيع المرور قرب دوريات الشرطة لعلمه أن ما يقوم به مخالف للقانون، مشيرا إلى أن "غالبية التجار لا يمتلكون ترخيصا"، وأضاف "هناك أنواع يقيد القانون اللبناني قطعها، مثل السنديان واللزاب، لكن كبار التجار يقدمون على قطعها، وأنا شخصيا لا ابيع السنديان، إلا بعد التأكد من عدم تعرضي للملاحقة القانونية".

ويمنع القانون اللبناني بشكل عام قطع أشجار الصنوبر، اللزاب، الشربين، السرو، الشوح، الأرز، وأي شجر صمغي آخر، وكذلك أشجار التوت، أما بالنسبة لبقية الأشجار، فيمنع القانون قطعها إذا زاد محيطها على 20 سم عند علو متر من الأرض، وتفرض عقوبة السجن والغرامة على المخالفين.

في هذا السياق، ضبط فريق مركز أحراج بنشعي في وزارة الزراعة، بمؤازرة قوى الأمن، مخالفة في قضاء زغرتا تمثلت بقطع عشرات الأشجار من الصنوبر البري والسنديان والملول من دون أي ترخيص قانوني، بكميات قدرت بعشرات الأطنان، وقد نظم محضر ضبط وأحيل الملف إلى القضاء، تأتي هذه العملية في وقت تواجه فيه الغابات اللبنانية ضغوطا متزايدة من التعديات وعمليات القطع العشوائي والحرائق الموسمية، ما يهدد التنوع البيئي والتوازن الطبيعي.

مصدر قانوني أكد أن هناك عدة قوانين ومراسيم لحماية الغابات، وتصل العقوبات إلى السجن والغرامات، لكنه أشار إلى أن غياب البدائل يجعل القانون حبراً على ورق، مضيفاً "المشكلة ليست في النصوص، بل في غياب الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية فلا يمكن مطالبة الناس بالامتثال للقانون في ظل غياب بدائل للطاقة، وعلى الدولة أن توفر حلولا عادلة قبل أن تطلب الالتزام".

أما القانون رقم 85 لعام 1991 الذي يرمي إلى المحافظة على الثروة الحرجية والأحراج، فيتضمن مواد عديدة تهدف إلى حماية الغابات من التحطيب، والقطع غير القانوني، وينص القانون على حظر قطع الأشجار أو استغلال الغابات من دون الحصول على إذن مسبق من الجهات المختصة، كما يحدد العقوبات الموقعة على المخالفين.

وينظم قانون الغابات الصادر عام 1949 إدارة الغابات وقطع الأشجار، وتمنع المادة 12 الترخيص بقطع أشجار الدولة إلا في حالات قاهرة بموجب مرسوم من مجلس الوزراء، أما القانون رقم 85 لعام 1991 فيرمي إلى المحافظة على الثروة الحرجية والأحراج ويحدد العقوبات على المخالفين، إلا أن عدم التطبيق الفعلي لهذه القوانين ساهم في تفاقم تقلص الغطاء الشجري، خاصة الأشجار النادرة، حيث خسر لبنان نحو 2,644 هكتارًا بين 2019 و2023 نتيجة القطع العشوائي، أي ربع ما فقده منذ 2001.

ناشط بيئي فضل عدم الكشف عن اسمه أوضح أن قطع الأشجار مشكلة قديمة، لكنها تفاقمت نتيجة للأزمة الاقتصادية وارتفاع تكاليف التدفئة، خاصة في القرى والبلدات، مشدداً أن "الأشجار ليست فقط منظرا أخضر، بل هي خط دفاع ضد الانهيارات والسيول، وتساهم في التوازن المناخي، وإذا استمر القطع على هذا النحو، فنحن أمام تصحر محقق، والحاجة إلى التدفئة لا تبرر استنزاف غاباتنا والقضاء على ثروتنا الحرجية"، وأضاف "نكرر دعوتنا للمواطنين بالامتناع عن التحطيب العشوائي وقطع الأشجار المعمرة، والاستعاضة عن ذلك بالتشحيل المنظم، الذي يساهم في تأمين الحطب بطريقة مستدامة لا تضر بالبيئة، وذلك شرط الحصول على التراخيص المطلوبة من وزارة الزراعة والتقيّد بمعاييرها وشروطها".

يساهم قطع الأشجار وإزالة الغابات في تفاقم تغير المناخ وحياة الإنسان، وفقاً للتقرير الثاني المحدث الذي قدم إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ عام 2017، حيث تؤدي الغابات دوراً أساسياً بوصفها "مخازن للكربون"، إذ تمتص ثاني أكسيد الكربون من خلال عملية التمثيل الضوئي، وتخزنه في الكتلة الحيوية والتربة، وعند قطع الأشجار، يطلق الكربون المخزن مرة أخرى في الغلاف الجوي، ما يفاقم ظاهرة الاحترار العالمي.

والتزم لبنان بخفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 20% بحلول عام 2030، وحدده هدفاً غير مشروط، وبحد أقصى 31% بحلول العام نفسه، مع فرض شروط معينة.

التحطيب، وما ينتج منه من تبعات بيئية، يعد واحداً من عدة عوامل تسببت بتراجع المساحات الخضراء في لبنان على مدار السنوات الماضية، إلى جانب الحرائق التي تندلع في الأحراج من حين إلى آخر، ومنذ الثامن من تشرين الأول 2023، احترق أكثر من ثلاثة آلاف دونم من الأراضي المزروعة جراء العدوان الإسرائيلي على لبنان، بالإضافة إلى تضرر أكثر من سبعة آلاف دونم من القصف في محافظات الجنوب.

يذكر أنه في عام 2015، بلغت مساحة غابات لبنان وأراضيه الحرجية 237 ألف هكتار، أي ما يعادل 23.4% من مساحته، ومنذ ذلك العام، خسر لبنان أكثر من 10 آلاف هكتار من هذه الغابات.

يبقى لبنان أمام معضلة كبرى، فالخيارات المتاحة اليوم بين قطع الغابات أو مواجهة البرد القارس ليست إلا انعكاسا لغياب السياسات البديلة، ويرى خبراء البيئة أن الحل لا يكون بترك المواطن لمصيره، ولا بفتح الغابات للفوضى، بل عبر خطة طوارئ حكومية متكاملة تقوم على تأمين بدائل مدعومة للتدفئة، مثل المازوت أو الغاز، في القرى الجبلية الأكثر هشاشة، عبر آليات توزيع شفافة تمنع الاحتكار والاستغلال، وتشجيع الطاقة الشمسية والبدائل النظيفة كخيار استراتيجي، خصوصا أن لبنان أطلق منذ سنوات خططا متعثرة لدعم الطاقة المتجددة لكنها بقيت حبراً على ورق، في وقت يمكن أن تشكل فيه الطاقة الشمسية وسخانات المياه بديلا عمليا في كثير من المناطق، إضافة إلى تشديد الرقابة على قطع الأشجار عبر البلديات وقوى الأمن، مع تفعيل العقوبات وتطوير أنظمة المراقبة المحلية، إذ إن القوانين موجودة لكن التنفيذ شبه غائب، وإطلاق برامج تشجير وطنية تعوض الخسائر، على غرار الحملات التي أطلقت في العقد الماضي تحت شعار "لبنان الأخضر" لكنها لم تستمر بفعل غياب التمويل والمتابعة.

ويؤكد الخبراء أن أي حل لا يأخذ بعين الاعتبار هذه المقاربة الشاملة سيبقى مجرد مسكن ظرفي، فالمطلوب هو سياسة طاقة عادلة ومستدامة، تضمن حق المواطن في الدفء وتحمي الغابات من أن تتحول إلى وقود للأزمات.

 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد