اوراق مختارة

اغتيال الطبطبائي تجاوز الخط الأحمر ولبنان أمام اختبار استعادة السيادة أو الاستسلام

post-img

محمد الحسيني/ موقع العهد الإلكتروني

ليست الجريمة الصهيونية الوحشية باستهداف منطقة سكنية في حارة حريك هي الأولى، ولن تكون الأخيرة في سياق الحرب العدوانية المستمرة على لبنان. إذ منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار، في 27/11/2024، ممثلًا آلية تطبيق للقرار 1701، وحكومة العدو تمعن في اعتداءاتها، برًا وبحرًا وجوًا وفضاءً، وتستبيح لبنان كلّه بأرضه وسيادته ومؤسساته وقراره السياسي، وتجنّد في سبيل ذلك طاقاتها العسكرية والاستخبارية والإعلامية، وتحرّك شبكات عملائها في الداخل اللبناني المعلنين والمستورين سعيًا للإطباق على المقاومة وبيئتها ومؤسساتها. وهي تؤكد، بنهجها الإرهابي، عدم اهتمامها بأي اتفاقات أو معاهدات، ولا تقيم وزنًا واحترامًا لأي قرار أو موقف رسمي تتخذه الدولة اللبنانية أو أي دولة عربية؛ طالما تحظى بمظلة أميركية، والتي تطلق يدها في القتل والإرهاب.

أما؛ وبعد اغتيال العدو الصهيوني القائد الجهادي الكبير الشهيد هيثم الطبطبائي (السيد أبو علي) وثلة من رفاقه المجاهدين وعددًا من اللبنانيين الآمنين، في حارة حريك، فإنه بذلك يسعّر أوار الحرب المفتوحة بين كيانه والمقاومة الاسلامية في لبنان، ويتجاوز خطًا أحمر آخر يضاف إلى خروقاته السابقة، لاسيما في يوم عيد الاستقلال. وهو في ذلك يبعث رسالة نارية مباشرة بلغة القصف والغارات إلى الحكم والحكومة، في لبنان، ولرئيس الجمهورية العماد جوزف عون تحديدًا، بأنّ الطروحات السياسية كلها، من قبيل المفاوضات والتسويات، هي بحكم الساقطة سلفًا، ولا سبيل لوقف العدوان إلا بالاستسلام الكامل والتسليم غير المشروط أمام "إسرائيل".

رفع رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو سقف المواجهة باغتيال القائد العسكري للمقاومة الإسلامية، في قلب الضاحية الجنوبية، وهي منازلة لم ولن تتوقف طالما لبنان يواجه خطر العدوان اليومي على البشر والحجر، وما تزال أجزاء من أرضه محتلة وعدد من أبنائه محتجزين في معتقلات العدو.

إلا أن المحكّ الأساسي، الآن، هو عند الحكومة اللبنانية التي انساقت وراء الإملاءات الأميركية في قرارها، في ما يسمّى "حصرية السلاح" واعتمادها الحلول الدبلوماسية سبيلًا لوقف الاعتداءات "الإسرائيلية".. فما الذي ستفعله هذه الحكومة بعد اليوم؟!.. هل ستصرّ على خيار البكاء عند أبواب البيت الأبيض؟ وهي تعلم بأنّ الجرائم الصهيونية لا تتم إلا بإشراف وبقرار مباشر من واشنطن!. ما هي المسوّغات التي ستطرحها هذه الحكومة لتوضيح الإهانات التي توجهها الإدارة الأميركية إلى مراكز القرار الرسمي، والتي وصلت إلى حد منع المسؤولين من استخدام مصطلح "العدو الإسرائيلي" أو تعبير "اعتداءات" لوصف الانتهاكات الصهيونية؟!..

ليس جديدًا على لبنان، في بعض تمثّلاته الرسمية والحزبية، تأثره بالقرار الخارجي، سواء أجاء من فرنسا تقليديًا أو من الولايات المتحدة الأميركية فيما بعد. ولكن المخزي، في هذا السياق، أن البعض ممن هم وزراء في حكومة نواف سلام وأبواق بعض الأحزاب المعروفة بعمالتها التاريخية مع العدو الصهيوني وصل إلى حد الجهر بالمطالبة بالاستسلام لـ"إسرائيل"؛ تحت عنوان "مفاوضات سلام" أو "تطبيع"، والتحريض على ارتكاب المزيد من عمليات القتل والإبادة بحق نظراء لهم في المواطنة اللبنانية، والسعي الحثيث لتعرية لبنان من عوامل قوته المتمثلة بسلاح المقاومة..!

لعلّ ما يحدوهم إلى ذلك اطمئنانهم بأن إدخال لبنان، في العصر "الإسرائيلي"، سيصبّ في مصلحتهم المستقبلية، ولا سيّما لجهة استعادة الدور الذي سعى إليه الاحتلال في العام 1982؛ حين نصّب بشير الجميل رئيسًا ومن بعده أخاه أمين الجميل، واعتقادهم بأنّ الفرصة اليوم سانحة لتكرار الخطوة نفسها مع قائد ميليشيا "القوات اللبنانية" سمير جعجع.

يدأب نتنياهو، في كل مرّة يشنّ فيها عدوانًا جديدًا على لبنان أو فلسطين أو سوريا، على القول إنه مستمر في تغيير "الشرق الأوسط"، وأن حلم "إسرائيل الكبرى" بدأ بالتحقّق، ولن يوقف اجتياحاته العسكرية وإشعاله المنطقة قبل إتمام مشروعه التوسّعي. أما في لبنان؛ فهناك من ينظر في تقويمه للتغيّرات بعين واحدة متأثرًا بالضغوطات الأميركية المتشعبة الاتجاهات والمتعدّدة المجالات. وهو لا يؤمن بأن لبنان، والذي حقّق الانتصارات الكبيرة بمقاومته وجيشه وشعبه منذ العام 1982 حتى العام 2006، ما يزال قادرًا على كتابة فصول النصر من جديد، وأن الانتكاسة التي تعرّضت لها المقاومة، في حرب أيلول 2024، هي معركة في سياق حرب، يملك اللبنانيون فيها مقوّمات الصمود والمواجهة، ولكن بشرط التوحّد خلف خيار المقاومة وكفّ بعض المرتهنين للخارج عن الإمعان في تمزيق البلد.

إن ما تقوم به، اليوم، الأبواق اللبنانية الداعية للاستسلام أمام أميركا و"إسرائيل" يندرج ضمن الخطوات المحدّدة والأدوار المرسومة، منذ العام 2019، حين اندلعت ما سميت "ثورة التغيير" مع ما رافقها من تسويق لمصطلح الدولة الفاشلة مرورًا بالحصار الغربي – العربي المطبق على لبنان، سياسيًا وعسكريًا، ثم إفلاس البلد وإسقاطه اقتصاديًا واجتماعيًا واستهداف لقمة عيش الناس وانهيار القطاع المصرفي وضرب العملة الوطنية، وصولًا إلى حرب نتنياهو الإجرامية على لبنان وإسقاط النظام السوري وضرب المقاومة الإسلامية واغتيال قادتها السياسيين والعسكريين.. ذلك كله؛ كان من أجل إيصال لبنان إلى الوضع الراهن؛ حيث يتوهّمه البعض مقدّمة صالحة تتيح لنتنياهو إزالته عن الخارطة الجغرافية والسياسية، ولكن ما المانع من ذلك؟ !..

عام كامل مرّ على إعلان وقف إطلاق النار، والمقاومة الإسلامية ملتزمة به بشكل كامل حرصًا على التماسك الداخلي وشدّ أواصر البلد بمؤسساته ومستوياته المختلفة. وواجهت خلاله حملات ضغط هائلة؛ شاركت فيها الحكومة اللبنانية نفسها من أجل نزع سلاح المقاومة بذريعة "حصرية السلاح"، وفي ما يسوّقه الأميركيون والصهاينة وأبواقهم في الداخل من تهويلات مستمرة بإمكان استئناف الحرب لإتمام عملية نزع السلاح.. إذ يدّعي نتنياهو وحكومته أنه نجح في القضاء على قدرات المقاومة العسكرية، ولم تعد قادرة على المواجهة!! والحقيقة أن هذه المقاومة، والتي أفشلت أهداف نتنياهو وحكومته الإرهابية على مدى 66 يومًا من الحرب، ما تزال قادرة على الفعل على الرغم من امتناعها عن الردّ على جرائم العدو، كونه تراعي كثيرًا من الحسابات المحلية والاقليمية، وهي تراهن على صبر بيئتها وصمود أهلها وثقتهم بقيادتها وحكمتها في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.

لا يمكن إنكار الحساسية الفائقة التي يمر بها لبنان، في هذه المرحلة في ظل الجموح الأمريكي – الصهيوني للتوسّع، على حساب دول المنطقة وسيادتها الوطنية. والأكيد أن واشنطن و"تل أبيب" ستواصلان الضغط السياسي والعسكري على لبنان سعيًا لاستجرار موقف يتجاوز الدعوة إلى التفاوض التي أطلقها الرئيس عون، باتجاه التسليم الكامل من دون أي شروط، سواء أتزامن ذلك مع نزع سلاح المقاومة أم لا..

هذا لا يزيد العبء على المقاومة وقيادتها، والتي تعي ظروف المرحلة, بقدر ما يضع الحكم والحكومة أمام اختبار جديد يدعوهما إلى الاختيار: بين أن يقفا إلى جانب الشعب والمقاومة والجيش الوطني، ويتخذا قرار المواجهة واستعادة السيادة اللبنانية.. أو الدخول في نفق الاضطراب السياسي والأمني، وهذا ما تتمنّاه وتسعى إليه بعض الأحزاب اليمينية التي تنفخ في بوق الفتنة، وتسوّق لها عبر مواقفها الانعزالية التي تعيد البلد إلى أجواء الحرب الأهلية من جديد.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد