حسين كوراني/ موقع أوراق
عام مضى على مجزرة "البيجر"...
هناك؛ حيث أراد العدو أن يطفئ الحياة. لكنّ الناجين من الموت كتبوا الحكاية بشعار واحد "تعافينا".
عين جرحى "البيجر" مفتوحة على الأفق أكثر من أي وقت مضى، وتقول: "نُطفأ ولن نُقيّد".
الشعار الذي أطلقه جرحى "البيجر" كان من ضمن شعارات كثيرة دُرست لاختيار الأفضل منها، فوقع الخيار أخيرًا، بعد أن كتبت احدى صحف العدو مقالًا تحت عنوان: "جرحى البيجر لم يتعافوا"، فكان الرّد سريعًا من الجرحى: "تعافينا".
جرحى البيجر لم يتوقفوا عند الألم، أعلنوا أن العدوان لن يكسرهم، والجراح مهما نزفت تصنع أفقًا أوسع. كثيرون منهم عادوا الى أعمالهم بإرادة وعزم أكبر، و"تعافينا" ليست مجرد كلمة، هي وعد بأن الجرح يلتئم، والحياة بعد الدم أقوى.
عام مضى وجرحى "البيجر" يرفعون الشعار في وجه العدو: "تعافينا وبقينا".
مع ذكرى 17 أيلول 2024 الأليمة، لم يعد صدى جريمة "البيجر" محصورًا في تقارير التحقيق أو تحليلات المراقبين. هذه المرة، ارتفعت أصوات الجرحى أنفسهم، فكسروا جدار الصمت وشاركوا حكاياتهم علنًا.
إحدى الشهادات المؤثرة خطّها مصابٌ كان شاهدًا على الحادثة. يقول: "في المستشفى انكشف الجحيم، مئات الأجساد الممزقة، عيون أُطفئت، أطراف مبعثرة، أمعاء ممزقة، ورائحة الدم تملأ الأجواء.. مرّت الأيام كأنها دهور، صديقي خسر عينًا وأصابع… لكنه عاد بعد أسابيع إلى الميدان أقوى، يلتقط الصور ويصنع الأعمال كما كان، بل باندفاع أشد. نظرت في عينه الناجية، فرأيت فيها إرادة من فولاذ. يومها فقط أيقنت أننا تعافينا".
ليل طويل لا ينتهي
امرأة تسرد، في شهادة أخرى، رحلة الفقد المتكرر: "في يوم نفسه؛ استشهد خالي وأخي وابن عمي.. وفي الليل وصلنا خبر استشهاد عمي. مرّت الأيام كأنها ليل طويل لا ينتهي، حتى جاءنا خبر أن ابنتي الصغيرة بدأت ترى بعين واحدة؛ بعدما فقدت الأخرى جراء انفجار البيجر بها. بكيت طويلًا، لكني شكرت الله على هذه الومضة من الفرج وسط الظلام. المآسي لم تتوقف. كل يوم خبر جديد، عزاء جديد، ودموع لا تنتهي، لكننا على الرغم من الألم كله بقينا واقفين وصامدين. "فشرّ" أحد يذلّنا".
جريح آخر يروي حادثة مؤلمة: "عند عودتي من العمل إلى المنزل، اعتاد طفلي البالغ من العمر سنة ونصف أن يركض ويأخذ مني البيجر؛ ظنًا منه أنها لعبة صغيرة.. وغالبًا ما كان يضعها في فمه، ولكن يومها تأخرت في عملي.. وبعد أن انفجرت بي؛ تبادر إلى ذهني مباشرة ابني الوحيد، واغرورقت عيني السليمة بالدموع، عمّا كان سيحصل له لو انفجرت به".
"روان" أصل الحكاية
بابتسامة لا تفارق وجهها، وندوب اتخذت مساحة من وجهها الجميل، لم تكن "روان الموسوي" تتوقع أن صوت الجهاز الذي انفجر في غرفة الجلوس سيكون اللحظة التي تغيّر حياتها إلى الأبد؛ حين كانت تحضر الطعام لطفيلها -رضيع لم يتجاوز عامه الأول وابنتها ذات الأربع أعوام- عندما ذهبت لإطفاء الصوت العالي الصادر من الجهاز لتسقط فجأة على الأرض، والدم يسيل من وجهها.
في مقابلة مع إحدى الصحف اللبنانية؛ تقول روان: "كنت أفقد وعيي، أزحف وأتمسك بأي شيء لأصل إلى طفلي وآثار الدماء بقيت على كل ما لمسته في منزلي…".. دخلت في غيبوبة، واستيقظت بعد خمسة أيام.. كانت ابنتها الصغيرة شاهدة على كل شيء، وجروح والدتها العميقة حفرت في ذاكرتها بشكل لا يُمحى.. شاهدتني مغطاة بالدم، بلا وجه، بلا حركة.. كانت المشاهد قاسية بالنسبة إليها".
عند استيقاظها من الغيبوبة، أدركت "روان" حجم خسارتها: فقدت بصرها في عينيها الاثنتين، وبُترت يدها اليسرى بالكامل، وفقدت أصبعين من يدها اليمنى. أصعب ما في الوضع بالنسبة إليها؛ كان الانفصال القسري عن طفليها بسبب إصاباتها العميقة وجراحاتها المستمرة، ويصعب عليها الرد عن أسئلة طفلها الصغير، والذي يسألها دائمًا: "وين إيدك ماما؟ هي مكسورة؟ هي ضاعت؟ هي عند الحكيم؟".
العدو لم يفرّق بين مدني ومقاوم
تكشف إصابة جرحى، مدنيين وأطفال، بتفجير "البيجر" في لبنان زيف ادعاءات كيان الاحتلال قصده استهداف المقاتلين وحسب. إذ جُرح عدد من النساء والأطفال، من بين 37 شهيدًا و2931 مصابًا، بحسب أحدث إحصاءات وزارة الصحة. ومن بين الشهداء طفل صغير. وأمام هذه المجزرة؛ وجدت المستشفيات والطواقم الطبية نفسها أمام كارثة غير متوقعة تتجاوز نطاق الحرب التقليدية.
مشهد لا يوصف
يصف النائب الدكتور "إلياس جرادي"، وهو الاختصاصي بتصحيح عيوب الإبصار وجراحة القرنية، في مقابلة صحفية، ما حصل في عصر يوم 17 أيلول 2024 ويقول: "كنت أعمل أيّامًا متواصلة بلا توقف، في مركز العيون في المتحف، محاولًا إنقاذ ما تبقّى من نظر وحياة.. إذ كنا في وضع كارثي؛ والبلد تحت الحصار. لم نتخيّل يومًا أن نواجه هذا العدد من الجرحى دفعة واحدة. كانوا يتدفقون بالعشرات، معظمهم مبتور الأطراف بإصابات بالغة في العيون والوجه. عملنا تحت ضغط يفوق الطاقة، بلا نوم ولا توقف، حتى وصلنا إلى لحظة شعرنا فيها أننا لم نعد قادرين على الاستمرار. ما رأيناه كان إجرامًا يفوق الوصف".
جرائم حرب
تُختَتم هذه الشهادات، بما أجمعت عليه تقارير خبراء من أمميين ومنظمات دولية؛ مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، أن "ما جرى في مجزرة "البيجر" و"اللاسلكي" يرتقي إلى مصاف جرائم الحرب؛ فقد جرى استخدام أساليب تفجير عشوائية استهدفت المدنيين والمقاتلين من دون تمييز، في خرق واضح وصريح لقواعد القانون الدولي الإنساني". وأوضحوا أنّ القانون الإنساني الدولي يحظر استخدام الفخاخ المتفجّرة على شكل أشياء محمولة غير ضارّة، بعدما تبيّن أنّها صُمّمت وصُنعت خصيصًا لإيقاع أكبر عدد من الضحايا.
أخيرًا، ستظل شهادات الناجين وأصوات الحقوقيين على جريمتي "البيجر" و"اللاسلكي" جرحًا محفورًا، في الذاكرة اللبنانية؛ فهي لم تكن مجرد مأساة وطنية، هي نموذج صارخ على الإرهاب الإسرائيلي الذي حوّل التكنولوجيا إلى أداة قتل جماعي، وجعل من أجهزة الاتصال قنابل صامتة تنفجر في وجوه وأيدي الأبرياء، وتوثّق حجم البشاعة وتكتب فصلًا مظلمًا في سجل الألم الإنساني.