د. ليلى صالح/ باحثة في علم الاجتماع السياسي
تكثر المقاربات والتحليلات السياسية والقانونية عن التحولات الجاية في النظام الدولي، ووضع الرأي العام في مشهدية لما سيؤول إليه ما سمي بــ"النظام الدولي".
نبدأ بالمفارقة الأساسية التي هي أن المقدمات تنبئ بالنتائج، وما بني على باطل لن ينتج الا باطلًا، فهذا النظام الدولي الذي أرتكز على قوة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، بعدما حصد ملايين البشر ظلمًا وعدوانًا على البشرية، فضلًا عما خلفه من دمار وانتهاك للحقوق والأعراف كلها أمام القوة، يؤكد بأن ما نراه اليوم في المشهد العالمي ليس تحولات في القانون الدولي بقدر ما هو تظهير لحقيقة هذا القانون. وما يتم، اليوم، من حديث عن سقوط القوانين الدولية إنما هو سقوط للأقنعة عن هذه السياسات الدولية التي بنيت على الظلم والقوة؛ فأساس الصراع الإنساني في العالم منذ نشأته هو بين الحق والباطل، بين الإنسانية بقيمها السامية وبين الوحشية بشريعة الغاب.
تصرف أميركا، اليوم، بصفتها دولة مارقة، يكشف حقيقة الديمقراطية الأمريكية التي تحكم العالم منذ سقوط الثنائية القطبية لتتفرد بالهيمنة والغطرسة التي انتجت أبشع سياسة وحشية؛ تمظهرت في الدعم الكامل للحروب والاعتداءات الصهيونية على منطقتنا برمتها، وفي مقدمتها الإبادة الوحشية المستمرة في غزة.
نقرأ، اليوم، نقدًا منظّمًا وعميقًا لبنية النظام الدولي من رجل أمن ودبلوماسية خليجي؛ وهو الأمير تركي الفيصل، "عن الفوضى النووية ومعادلة الإذعان الشاملة"، عن المنشأة النووية الإسرائيلية "ديمونا" المتفلتة من ما يسمى بــ"مبدأ العدالة الدولية"، ومتى قام النظام الدولي على القانون الأخلاقي وعلى وحدة المعايير، فهل جديد في هذا "النظام الدولي" القائم على قواعد القوة المجردة وقانون الفيتو"، وما يمثله من أداة التمييز العنصري الذري الذي تعاقب فيه الضعفاء وتحمي الأقوياء، حين يسكت العالم عن انتهاك الكيان المؤقت منظومة عدم الانتشار النووي على مدى عقود، من دون أي تفتيش أو محاسبة، بينما يُهدد الآخرون بالقصف لمجرد التفكير في التخصيب السلمي؟ أم الجديد يبرز في التحولات في هندسة موازين القوى الردعية في منطقة غرب آسيا، بدلالة ما جرى في قمة شرم الشيخ من إذعان أمريكي بالدبلوماسية في دعم وظيفة قوة الردع الصهيونية، وهي الأداة الأمريكية لترويض المنطقة كلها، وبخاصة دول الخليج، بعد سقوط القوة الأمريكية الصهيونية في تحقيق أهداف الردع أمام الصمود الأسطوري لشعوب هذه المنطقة ومحور المقاومة؟
هل تجرؤ الدبلوماسي الخليجي، في مقاله الذي يقدم فيه رسالة استراتيجية موجهة للعواصم الغربية، على لوم السياسة الأميركية لسقوطها أخلاقيًا إلى نزع الشرعية الدولية عنها، هو ناتج عن كشف حقيقة زيف مشروع السلام الأمريكي في المنطقة أم عن تغيير في موازين القوة الردعية؟
هذه المقاربات التي رأها البعض واحدة من أذكى المقارنات التي أجراها الأمير: لماذا تُعتد تصريحات إيران عن "زوال إسرائيل" تهديدًا وجوديًا، بينما لا تُعد تصريحات نتنياهو المتكررة منذ العام 1996 عن تدمير النظام الإيراني تهديدًا مقابلًا؟ تجعلنا نأمل في صحوة سياسية عربية لمصالحها الاستراتيجية ووعي لعدو المنطقة وشعوبها الذي زرع فيها ظلمًا وقهرًا، وبات يشكل تهديدًا وجوديًا لدول المنطقة كلها من دون استثناء؛ فضلًا عن التهديد النووي والأمني الناجم عن سياسته التوحشية التي تجاوزت المواثيق والأعراف الإنسانية والدولية كلها.
هذه السياسة لا يتوانى عن كشفها في إعلان مشروعه التوسعي الاستحلالي في "إسرائيل الكبرى"؛ والذي لم يبقَ أسطورة تلمودية؛ بل يمارسه الكيان المؤقت بوحشية وبضوء أخضر أمريكي، في سياسة قضم جبهات محور المقاومة، ويصادق عليه في الكنيست تباعًا ليعطيه مشروعية ودافعية داخلية في هذه المرحلة التي تشهد انهزامًا وسكوتًا عربيًا حكوميًا وشعبيًا مدويًا أمام التوحش والغطرسة الأمركية الصهيونية. العدو يستثمر هذه الفرصة الذهبية، والسياسيون العرب يرتقون إلى مستوى مناشدة العدالة الدولية التي لم تكن يومًا حاضرة لإعطاء أي حق.

تستمر أمريكا في سياسة "السلام تحت القوة"، وفرض الإذعان والترويض. ووفقًا لقراءة الأمير، أن استهداف إيران هو "فعل تأديبي رمزي"، الغرض منه إرسال رسالة بأن الردع النووي حكرٌ على "إسرائيل"، وأي محاولة من غيرها، حتى وإن كانت لأغراض سلمية، ستواجه بالقصف والإذلال. في الناتج السياسي؛ تؤكد هذه القراءة بأن إيران نووية سلمية، تنذر بسقوط أمريكا النظام المرجعي، فكيف بإيران نووية غير سلمية؟
بعد شنّ وزير المالية الصهيوني "بسلئيل سموتريش" هجومًا يغلب فيه الاستهزاء والسخرية والتنمر على السعودية؛ بقوله: إذا عرضت علينا السعودية التطبيع مقابل دولة فلسطينية؛ فأقول لا شكرًا، استمروا أنتم في ركوب الجمال في الصحراء، أما نحن في إسرائيل فسوف نواصل التطور، نبني اقتصادًا ومجتمعًا ودولة، ونفعل الأشياء العظيمة التي نعرف كيف نقوم بها".
نقرأ ما قاله الأمير تركي الفيصل، في سطوره الجريئة التي تحمل بذور تمرد سياسي خليجي على الصيغة القديمة للتحالف مع واشنطن. إذ إن خطاب القوة الخشنة والابتزاز المالي والحصانة الإسرائيلية لم تعد مقبولة، والذي لا يعني بالضرورة تفكك التحالف، بل استراتيجية التوازن في العلاقة مع أمريكا في ظل تهديد نووي لا التبعية المطلقة.