ورد كاسوحة/جريدة الأخبار
ثمّة نموذج يجري اختباره في الإقليم، انطلاقًا من اتفاق إنهاء الحرب في غزّة، وهو يتعامل بمنطق واحد تقريبًا، مع تنظيمات وفواعل غير دولتية، لا يجمع بينها سوى طبيعة قتالها غير المتناظر، سواء مع الاحتلال الصهيوني، أو مع النُظم التي كانت «ممانعة» له، قبل إسقاطها، وفقًا للتصوّر الكولونيالي ذاته.
التصوُّر يقوم على معاودة تأهيل هذه التنظيمات، بعد إخضاعها بواسطة العنف التدميري، بحيث لا تكون قادرة، حتى على المساومة على ما تبقّى لها من أرض أو سلطة. الضعف الشديد هنا، ولا سيّما لدى الفواعل المناهضة جذريًا للغرب وإسرائيل، يقابله فائض قوّة شكليّ، لدى فاعلين آخرين، جرى تعويمهم كسلطات أمر واقع، للقيام بالدور الذي رفضت التنظيمات الأولى القيام به، لفرط ما ينطوي عليه من إذعان وتقويض للشرعية السياسية والعسكرية.
ما يجعل الخطّة الأميركية المزدوجة للإخضاع والاحتواء ممكنة، هو المعرفة المسبقة بالمرونة الفائقة التي تمتاز بها تنظيمات الإسلام السياسي، سواء المناهضة للغرب منها، أو الموالية له. ولكن ذلك يتطلّب أولًا وفقًا للتصوّر الكولونيالي الإجمالي، عزل الأجنحة ذات الميول أو النزعات الإبادية داخل هذه التنظيمات، لأنّ مقارباتها لشكل العلاقة مع الدول والمجتمعات في الإقليم والعالم، لا تسمح، ليس فقط بضمّها إلى الخطّة، بل كذلك بتركها لمدّة طويلة في معازل وغيتوات، كتلك الموجودة في سوريا والعراق، في معتقلات ومخيّمات احتجاز أعضاء تنظيم داعش وعائلاتهم.
ثمّة تمييز كبير ضمن التصوُّر، بين الفواعل المناهضة للغرب والموالية له. وهذا واضح من طريقة الإدارة المُعَدّة لغزة، بعد الانتهاء من المراحل الأولى لتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار. عدم شمول حماس بالحكم الجديد، هو جزء من سلّة متكاملة، يجري فيها إنهاء الحالة المناهضة، بمزيج من إجراءات الإخضاع والاحتواء، فيُصار إلى الإبقاء على الوضعية السابقة كهيكل أمني فقط، ولأغراض تتعلّق بضبط الانفلات الحاصل كما يجري الآن في القطاع، ريثما تكتمل شروط نقل الحكم إلى الفاعلين الجدُد، المشمولين بالرعاية الأميركية، بالكامل.
الفواعل الموالية للغرب أو غير المناهضة له، تحظى بخلاف التنظيمات الأخرى المناهِضة مثل «حماس» و«حزب الله» و«الحوثيين»، بأفضلية نسبية، يتيحها ليس فقط التموضع الجديد لها، المتقاطِع مع المصلحتين الأميركية والإسرائيلية، بل أيضًا بنيتها التنظيمية والعقائدية التي يجري التذرُّع بها، للدفع بالتصوُّر المُعدّ للإقليم، قُدُمًا.
مع فاعلين مناهضين لإسرائيل بوضوح، ومتصالحين إلى حدّ كبير، مع الهويّات الوطنية لدولهم، كان من المستحيل إيصال سياسات الهويّة في الإقليم إلى الحضيض، الذي تقبع فيه الآن، بعد كلّ المجازر وأعمال الإبادة التي ارتكبت بين غزة والساحل السوري والسويداء. وهذه في الحقيقة جرائم غير منفصلة عن بعضها، لأنّ ما بدأ في السابع من أكتوبر، كان من المستحيل أن يستمرّ ويتصاعد، من دون تفكيك الجغرافيا السياسية والاجتماعية، للدولة الوحيدة التي كانت تقف في مواجهة التسيُّد الإسرائيلي للإقليم، بمعزل عن هويّة الحكم الذي كان قائمًا فيها، وشكل مواجهته للاحتجاجات ضدّه، على امتداد العقد السابق.
البنية الدينية للتنظيمات المعارضة لإسرائيل، لم تكن تتعارض مع الهويّة الوطنية للدولة الأمّة في المشرق، لا سيّما في سوريا، حيث كانت الحداثة السياسية السابقة قادرة، بفضل بنيتها السوسيولوجية المتعدّدة، على الجمع بين تناقضات عدة، أهمّها تضافُر الفواعل الدينية واللادينيّة، من غير أن يمثّل ذلك تهديدًا يُذكَر، على هوية الدولة الأمّة الوطنية أو القومية.
التناقض بين الهويّتين الدينية والعلمانية ضمن الطيف المناهض بقوّة لإسرائيل، لم يستعر لأسباب متعدّدة، أهمُّها، رسوخ نموذج الدولة ــ الأمة القومية، أقلّه، منذ الاستقلال وصعود التيارات القومية. هكذا، بدا هذا النموذج قادرًا، حتى على تذويب الهويّات الدينية التي تنضوي في إطاره، بحيث لا تظهر النزعة الإحيائية الخاصّة بها، خارج إطار توظيفها، ضمن النسق العلماني أو المدني العامّ. وفي المقابل، كانت الهويّات الجزئية التي تنطوي على نزعة عَلمانية، ضمن الجماعة نفسها، تجد ذاتها فيه، عبر استمراره، في تقديم نموذج يمكن عبره إدماجها بسهولة ويُسر، كنزوع فرعي لا يتناقض مع الهويّة الوطنية الجامعة.
أبرز ما قدّمه على هذا الصعيد لجماعات كهذه، تذليلُ مخاوفها الوجودية، من طغيان الحكم السلطاني الأسبق، الذي يستبطن نزعة أكثروية واضحة ومهيمنة. هكذا، وبفضل توسيع سياسات الإدماج، بعيدًا من التقوقع والانعزال ضمن الهويّات الصغرى، الدينية أو العلمانية، أصبحت الهويّة الوطنية للدولة الأمّة القومية، قادرة، على كبح أيّ نزعات انطوائيّة، لا تجد في الدولة الصهيونية، عدوًّا لها.
هو ما يفسّر حصول العكس، لدى صعود الحكم الديني المستتر، الذي أعاد إحياء سياسات الملل والنحل العثمانية القديمة، معطيًا بذلك الذريعة، ليس فقط لبروز إسرائيل «كفاعل طبيعي» في البلاد، من ضمن فواعل أخرى عدة، بل أيضًا لتبوُّئها، في سابقة غير معهودة في الإقليم، موقع «الملاذ»، بالنسبة إلى الجماعات التي وقعت ضحيّة أعمال الإبادة والتطهير العرقي.
سياسات الهويّة ذات الطابع التفكيكي، لا تظهر بوضوح في غزة، كون الصراع خارج سوريا، لا يحتاج إلى أدوات مرتبطة بالطوائف والجماعات الأهلية، قدر حاجته إلى المضيّ قدُمًا في سياسة تفكيك العداء لإسرائيل، ضمن المنظومة التي أُنشئت على أنقاض تحالف سوريا ــ إيران ــ حزب الله ــ حماس ــ الجهاد. الحاجة إلى الطوائف والجماعات كأدوات في الصراع، تنشأ، حين لا تعود الوسائل السابقة على التسعير الطائفي والاثني والعرقي قادرة على العمل كما يجب.
هذا غير قائم حاليًا في كلّ من غزة ولبنان والعراق، إلا بحدود معيَّنة، كون الطوائف هناك لا تُستخَدم كأدوات مباشرة في الصراع إلا فيما ندر (النظامان السياسيان في لبنان والعراق ينظّمان عمل الطائفية السياسية من دون الحاجة إلى الطوائف نفسها كأدوات للصراع السياسي). في المقابل تبدو سوريا المفكَّكة، والمفتقدة بالكامل للتجانس السوسيولوجي بين الجماعات، بمنزلة مُختبر فعلي للاستعاضة عن الصراع السياسي الخاصّ بالأحزاب والبرامج السياسية، اليمينية واليسارية على حدّ سواء، بصراع الجماعات والهويات الجزئية، حتى حين تكون المجازر وأعمال الإبادة والتطهير العرقي، هي الشكل الوحيد له.
«البيئة المريحة» التي تعمل إسرائيل عبرها في الجنوب السوري، هي نتاج هذا التفكيك المنهجي للهوية الوطنية السورية، أكثر منها نتيجة استسهال جزء من السوريين التعامل مع إسرائيل، كما تشيع الماكينة الإعلامية الرديئة والرثّة، للنظام في سوريا. وإذا كان ثمّة تعامل بالفعل، فهو يبدو كمحصّلة منطقية، ليس فقط لتفكيك الهويّة الوطنية للبلاد، بل أيضًا كردّ ذي طابع هويّاتي، من هذه الأطياف على انزلاق سياسات الهويّة التي عادة ما تنحصر في إطار الصراع السياسي السلمي وغير المُكلِف بشريًا، إلى أفعال إبادية وأعمال تطهير عرقي وقتل على نطاق واسع.
كلُّ ذلك يجعل حضور إسرائيل في المنطقة الجنوبية، بمنزلة «تحصيل حاصل» لجهة اللجوء إليها لدرء أعمال الإبادة. وهذا عادة ما يكون خارج إطار التقدير الجيوسياسي، بعيد المدى لمصالح الدولة الصهيونية، لأنّ امتناع السياسة هناك بموجب سياسات المجازر والمذابح الجماعية، جعل من فعل التخادم بحدّ ذاته، سياسة، وإن تكن قصيرة المدى وغير مستدامة، نتيجة تعارضها مع المحيط الإقليمي المتضرّر من سياسات إسرائيل، ولا سيّما بعد أعمال الإبادة والمجازر في غزّة.
التخادم هنا لا يقوم بين فواعل فقط، سواء كانت دولًا أم تنظيمات أم جماعات أهلية، بل بين الأحداث التي أفضت إليها سياسات أولئك الفاعلين، ولا سيّما في سوريا وإسرائيل. على رأس قائمة هذه الأحداث، تأتي المجازر المتنقلة هنا وهناك، فما بدأَ في غزة على شكل إنهاء لمسار كامل من التحرُّر الوطني، عبر انتهاج سياسات الإبادة، سرعان ما انتقل بُعَيد سقوط النظام السابق، إلى الساحل، ومن بعده، إلى السويداء، على هيئة امتداد للإبادة في الإقليم، ولكن في إطار صراع داخلي بين الجماعات أو الطوائف.
المسارات هنا ليست منفصلة عن بعضها، إلا شكليًا، وتبعًا لمحدّدات الصراع وأدواته في كلّ بلد، ففي حين اتخذت في غزّة شكل حرب ضدّ حركة تحرُّر وطني موصومة غربيًا بالإرهاب، ارتدت في سوريا طابع تأليب الهويّات الجزئية، دمويًا، بعضها على بعض، بغرض الانتهاء من الغطاء الذي كانت تمثلّه الهوية الوطنية السورية، والذي كانت الحداثة السياسية السابقة، حتى مع النظام السابق، تعمل بمنزلة وعاء له.