اوراق خاصة

نظرة الكيان الإسرائيلي المستجدة لحزب الله من عقيدة الحسم إلى إدارة المخاطر

post-img

فادي الحاج حسن / كاتب لبناني

شهدت نظرة الكيان الإسرائيلي المؤقت الاستراتيجية لـــ"حزب الله" تحولًا مفاهيميًا عميقًا متجاوزةً عقيدة "الحسم السريع"، والتي كانت سائدة في العقود الماضية. لم يعد الحزب مجرد قوة استنزاف محلية، لقد تحوّل إلى "خصم استراتيجي مركزي" قادر على تهديد العمق الإسرائيلي وإعادة تعريف مبدأ الأمن القومي نفسه. 

هذا التبدل بعدما كان رد فعل على تراكم قوة الحزب أضحى نتاج تفاعل معقد بين التجربة القتالية وتطور القدرات الاستخباراتية والبيئة الإقليمية المتغيرة وأدوات إدارة المخاطر الجديدة التي تبنتها المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية. يعتمد هذا المقال على تحليل المعطيات الواردة في تقارير أمنية واستخباراتية إسرائيلية حديثة، في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2025، لاستكشاف الأبعاد الجديدة لهذه النظرة وتداعياتها على استراتيجية المواجهة في الجبهة الشمالية.

أولًا- حزب الله وإدراك التعافي وتطور القدرات النوعية 

تُقرّ التقديرات الإسرائيلية الأخيرة بأن حزب الله نجح في إعادة بناء صفوفه وترميم قدراته التي تضررت، في المواجهات السابقة، مدعومًا بالدعم الإقليمي الإيراني. هذا التعافي يتعدى استعادة الوضع السابق ويشمل تطويرًا نوعيًا في القدرات، ويفرض تحديات جديدة على المنظومة الأمنية الإسرائيلية:

1.    التعقيد العملياتي والتوزيع الجغرافي

أظهر الحزب قدرة على التعافي من الهزائم السابقة وتطوير قدراته الدفاعية والهجومية بالتوازي، مستفيدًا من الخبرة المكتسبة والدعم الإيراني. ومن أبرز مظاهر هذا التطور:

الوحدة 127 والمُسيّرات: هناك تركيز خاص على تطوير الوحدة 127 المسؤولة عن تشغيل الطائرات المُسيّرة الاستطلاعية والهجومية، مع انتشار فرق صغيرة تابعة لها في أنحاء لبنان لتعزيز القدرة الهجومية.

الانتشار في العمق: تشير التقديرات إلى نقل المراكز الأساسية للحزب إلى العمق اللبناني، وتحديدًا منطقة البقاع، ما يمنحه عمقًا لوجستيًا وعملياتيًا ويجعل أي عملية برية إسرائيلية مستقبلية تتطلب اجتياحًا واسعًا وطويل الأمد.

شبكة الأنفاق: ما تزال شبكة الأنفاق الواسعة، خاصة تلك الممتدة من الشام إلى الليطاني ومنطقة البقاع، تشكّل عمقًا لوجستيًا واستراتيجيًا للحزب، وهي بنية تحتية لم تُدمر بالكامل وتُصعّب من مهمة المباغتة الإسرائيلية.

2.    تحدي الصواريخ الدقيقة والجبهة الداخلية

تُعد الصواريخ الدقيقة التحدي الأكبر في النظرة الإسرائيلية المستجدة، إذ يُعتقد أن الحزب يمتلك ترسانة كبيرة تُقدر بـ 10 آلاف صاروخ دقيق قادرة على استهداف أي نقطة في "إسرائيل". وتُشير التقديرات إلى أن الحزب في المواجهة القادمة سيحاول تحدي الجبهة الداخلية الإسرائيلية بعمليات منسقة ومركزة من محاور متعددة، باستخدام صواريخ بعيدة المدى وطائرات مُسيّرة.

ثانيًا- التحول الاستراتيجي الإسرائيلي من الحسم إلى الإدارة

في ظل إدراك صعوبة الحسم الكامل، تحوّلت الاستراتيجية الإسرائيلية إلى مسار مزدوج يهدف إلى تثبيت الردع وإدارة المخاطر، مع السعي إلى "استنزاف تدريجي" لقدرات الحزب.

1.    تثبيت قواعد اشتباك جديدة

تُركز الاستراتيجية الإسرائيلية على منع الحزب من استعادة "زخمه الكامل"، عبر سياسة "العمل الأوسع" التي تتجاوز الردود المحدودة. وتتمثل هذه السياسة في:

الضربات الاستباقية والاغتيالات: استمرار الغارات المركزة والاغتيالات التي تستهدف قيادات الحزب والبنية التحتية العسكرية، بهدف تقليل جاهزيته القصوى.

الضغط الدبلوماسي والاقتصادي: تفعيل التنسيق مع الولايات المتحدة والدول الحليفة لممارسة ضغط سياسي واقتصادي على لبنان وحزب الله لتكون أداة استراتيجية لتفكيك بنيته.

كذبة التفكيك الكبرى: يقرّ محللون إسرائيليون بأن الحديث عن نزع سلاح حزب الله عبر الجيش اللبناني أو القنوات الدبلوماسية هو "كذبة كبرى" و"مفارقة مستحيلة"، ما يدفع المؤسسة الأمنية لتبني استراتيجية عسكرية أكثر واقعية تركز على الاستنزاف وتقويض القدرات بدلًا من التفكيك.

2.    معضلة البنية التحتية المدنية والعسكرية

تُشير التقارير إلى تداخل بنية الحزب التحتية المدنية والعسكرية؛ حيث تُستخدم إعادة إعمار المناطق المدمرة غطاء لإعادة بناء البنية العسكرية. وترى "إسرائيل" أن مصلحتها تكمن في إضعاف هذه البنية التحتية طالما أنها تشكل غطاءً للتعمير العسكري، ما يضعها في معضلة أخلاقية وقانونية، حيث تصوّر ضرباتها اعتداء مباشرًا على المدنيين.

البعد الاستراتيجي: النظرة القديمة (عقيدة الحسم) | النظرة المستجدة (إدارة المخاطر)

الهدف النهائي: بعدما كان الحسم السريع وتفكيك قدرات الحزب بالكامل، أصبح تثبيت الردع ومنع التعافي الكامل والاستنزاف التدريجي.

طبيعة المواجهة: بعدما كانن حربًا قصيرة ومحدودة جغرافيًا أضحى اشتباكًا طويلًا ومُدارًا، مع تداخل الجبهات والعمق اللبناني.

خطر العمق الإسرائيلي: بعدما كان محدودًا ويمكن احتواؤه، اصبح التوقع مرتفعًا بسبب الصواريخ الدقيقة والطائرات المُسيّرة.

دور الدبلوماسية: بعدما كان ثانويًا يتبع الحسم العسكري، أصبح أساسيًا وأداة ضغط استراتيجي بالتنسيق مع واشنطن.

تقويم قوة الحزب: بعدما كانت قوة استنزاف محلية أصبح عدوًا استراتيجيًا مركزيًا.

ثالثًا- تحديات النظرة المستجدة والمخاطر الكامنة

تُواجه الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة تحديات ومخاطر كامنة قد تُخرجها عن مسار "الإدارة المُنضبطة" :

1.    خطر الانزلاق إلى حرب شاملة

تُدرك "إسرائيل" أن الدخول في حرب برية واسعة النطاق، في العمق اللبناني، يحمل مخاطر عالية (عسكرية، سياسية، دولية). كما أن احتمال انخراط حلفاء إقليميين، خاصة إيران، بشكل مباشر أو غير مباشر، يزيد من خطر التصعيد الإقليمي ويُعقد الخيارات الإسرائيلية.

2.    عامل الزمن والتعافي

يرى الكيان أن الوقت يعمل لمصلحته في الوقت الحالي، خاصة في ظل وقف إطلاق النار المؤقت في غزة، ما يتيح تحويل الموارد إلى الجبهة الشمالية. ومع ذلك، فإن أي تأخر في المواجهة يمنح حزب الله مزيدًا من الوقت لإعادة التجهيز، ما يزيد من صعوبة الردع في المستقبل.

3.    معضلة البيئة اللبنانية

يعمل حزب الله في سياق بيئة لبنانية تعاني أزمات اقتصادية وسياسية خانقة. وترى "إسرائيل"، في هذه الهشاشة الداخلية، عاملًا قد يُضعف قدرة الحزب على الصمود في مواجهة طويلة. في المقابل، يُحذر محللون إسرائيليون من أن انهيار الدولة اللبنانية أو اندلاع حرب أهلية قد يُدخل "إسرائيل" في مآزق لا ترغب به، ويهدد استقرار الجبهة الشمالية.

في هذا الصدد يقول جنرال إسرائيلي يدعى " تامير هايمان":" إن الحديث عن تفكيك حزب الله كذبة كبرى محظور تصديقها. الحزب ينظر إلى نفسه أساسًا حركة مقاومة، والاعتقاد بأنه قادر على البقاء من دون سلاح هو تناقض داخلي ومفارقة مستحيلة. إذا لم يُدفع الجيش اللبناني إلى مواجهة حزب الله؛ فلن يحدث أيّ تغيير. ينبغي أن تكون الاستراتيجية الإسرائيلية بعيدة المدى مختلفة؛ فهذه الضربات [التي تستهدف قياداته] لا تكفي."

ختامًا

تُشير النظرة الإسرائيلية المستجدة لحزب الله إلى تغير في النموذج الاستراتيجي، من "عقيدة الحسم" إلى "عقيدة الردع الظرفي وإدارة الصراع". لم يعد الهدف هو التفكيك الكامل، بل الاستنزاف المنهجي لقدرات الحزب ومنعه من الوصول إلى "نقطة إطلاق المواجهة بشروطه". يُركز هذا التحول على أربعة محاور رئيسة: 

أولًا- الإقرار بقدرات الحزب النوعية، لاسيما الصواريخ الدقيقة والمُسيّرات والانتشار في العمق. 

ثانيًا - تبني سياسة "العمل الأوسع" التي تجمع بين الضربات العسكرية المركزة والضغط الدبلوماسي الاقتصادي. ثالثًا- السعي لتثبيت قواعد اشتباك جديدة تخدم مصالح الكيان الأمنية. 

رابعًا- إدراك المخاطر العالية للانزلاق إلى حرب برية واسعة، ما يجعل الاستراتيجية أقرب إلى صراع طويل الأمد ومُدار بعناية؛ يهدف إلى فرض واقع أمني جديد يخدم المصالح الإسرائيلية على الحدود الشمالية من دون الحاجة إلى حسم عسكري شامل. 

إن هذا التغيير يعكس اعترافًا ضمنيًا بأن حزب الله أصبح لاعبًا استراتيجيًا إقليميًا ولم يعد مجرد تهديد حدودي، ما يتطلب استراتيجية شاملة تتجاوز البعد العسكري لتشمل الأبعاد السياسية والاقتصادية والاستخباراتية.

المراجع والمصادر

1.    مركز UFEED: "متغيرات النظرة الصهيونية لوضعية حزب الله" (تقرير تحليلي داخلي حول متغيرات النظرة الصهيونية لوضعية حزب الله، مركز الأبحاث والتطوير للاتحاد، 4 أغسطس 2025 مع تحديثات حتى أواخر أكتوبر 2025).
2.    تطور حزب الله في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي 1982 – 2025، أوراق، 21 أكتوبر 2025.
3.    تحليل عسكري: صواريخ حزب الله قادرة على استهداف أي مكان في إسرائيل، الجزيرة نت، 24 أغسطس 2024.
4.    اعتراف إسرائيلي: الحديث عن تفكيك حزب الله كذبة كبرى، فلسطين تايمز، 29 أكتوبر 2025.
5.    الجنرال تامير هايمان: الكذبة الكبرى المسماة تفكيك حزب الله، الخنادق، 28 أكتوبر 2025.
 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد