اوراق خاصة

من الشعبوية إلى الواقعية السياسية.. دلالات فوز ممداني في نيويورك

post-img

معتز منصور/ باحث سياسي

فوز زهران كوامي ممداني بمنصب عمدة نيويورك أعمق من أن يعدّ انتصارًا انتخابيًا محليًا؛ هو إشارة إلى تحوّل أعمق في المزاج الأمريكي العام. الحدث يتجاوز وصفه صعودًا لمرشح مسلم مهاجر يتميز بميول اشتراكية ليصبح عنوانًا لمرحلة جديدة في السياسة الأمريكية؛ وهي مرحلة الواقعية السياسية التي تستعيد السياسة فيها معناها الأول، أي خدمة الناس لا المانحين ولا المنابر.

تحوّل في المزاج الأمريكي

منذ صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة، في العام 2016، ظلّ المشهد الأمريكي يتأرجح بين طرفين متناقضين: شعبوية ترامب الصاخبة والليبرالية المرهقة التي احتكرها الحزب الديمقراطي. وكلا الخطابين فشل في تلبية احتياجات المواطن العادي الذي يواجه أزمات معيشية متفاقمة؛ من الإسكان إلى الديون الجامعية... وجاء ممداني بخطاب بسيط وواقعي: كيف يعيش الناس؟ كيف يدفعون الإيجار؟ كيف يتحمّلون النقل والرعاية الصحية؟ هذا التحول من لغة الشعارات إلى لغة الحياة اليومية؛ أعاد للسياسة معناها المفقود، فصوّت له الناس، لا لأنهم يشاركونه الهوية، بل لشعورهم أنه يشبههم.

التحالف الجديد والشباب والطبقة العاملة

أبرز ما كشفته الانتخابات الأخيرة هو ارتفاع مشاركة عنصر الشباب، ممن هم بين 18 و29 عامًا. هذه الفئة التي لطالما كانت بعيدة عن صناديق الاقتراع؛ وجدت في ممداني خطابًا يعبر عنها، لا بلغة الوعود الكبرى، بل بلغة الواقع.

في المقابل، انجذبت إليه الطبقة العاملة التي ضاقت ذرعًا بنخبوية الحزب الديمقراطي من جهة، وشعبوية الجمهوريين من جهة أخرى. وبهذا نشأ تحالف جديد يجمع بين وعي الشباب وغضب الطبقات الكادحة، تحالف قد يُغيّر مستقبل الخريطة الانتخابية في أمريكا.

السياسة بلا أقنعة

رمزية ممداني لم تكن فقط في خطابه، أيضًا في جرأته على أن يكون هو نفسه. لم يخفِ انتماءه الديني أو ملامحه الثقافية، ولم يتقمّص صورة السياسي النمطي. لحيته، هويته المعلنة، ولهجته القريبة من الناس كانت جزءًا من رسالته: الصدق لم يعد عيبًا في السياسة.

هذا التحول يعكس نهاية زمن "السياسي المقنّع"، والذي يخاف من إظهار قناعاته خشية فقدان الأصوات. اليوم، يبدو أن الأمريكيين يبحثون عن الصدق أكثر من الكمال، وعن الوضوح أكثر من اللياقة الزائدة.

الواقعية بدل الشعارات

في مقابل انشغال الديمقراطيين لعقود بقضايا الهوية والحقوق الفردية، عاد ممداني ليطرح سؤالًا بسيطًا ومباشرًا: من يستطيع أن يعيش في هذا البلد بكرامة؟ بهذا المعنى، تحوّل خطابه من "العدالة الاجتماعية"، بوصفها مفهومًا نظريًا إلى "القدرة على تحمّل تكاليف الواقع اليومي".. إنها السياسة التي تتحدث بلغة الفاتورة والإيجار والمواصلات، لا بلغة النظريات. هذه العودة إلى الأرض، إلى تفاصيل الحياة، تمثل جوهر الواقعية السياسية التي تعيد بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته.

من الداخل إلى الخارج وأثر التحول

حين يتغير الوعي السياسي، في الداخل الأمريكي، تتأثر بالضرورة السياسة الخارجية. إذ كلما زادت الواقعية في الداخل زادت البراغماتية في الخارج. والولايات المتحدة التي تبحث، اليوم، عن حلول لأزماتها الداخلية قد تميل إلى الانكفاء النسبي عن دور "الشرطي العالمي" لمصلحة مقاربة أكثر حذرًا في منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط) وأوروبا وأفريقيا.

لن يكون ذلك تراجعًا عن النفوذ بقدر ما هو إعادة ترتيب للأولويات، حين تصبح المصالح المباشرة أهم من الشعارات الأيديولوجية. وهنا، يتقاطع فوز ممداني مع مزاج عام داخل الحزب الديمقراطي؛ يميل إلى تخفيف التورط الخارجي والتركيز على الداخل الاقتصادي والاجتماعي.

نهاية زمن الثنائية

في العمق، يمثل فوز ممداني لحظة كسر لثنائية أنهكت السياسة الأمريكية: بين نخبوية الديمقراطيين وشعبوية الجمهوريين. الأول فقد قدرته على التواصل مع الناس، والثاني استغل غضبهم من دون أن يقدم بدائل واقعية. بينما الواقعية السياسية التي يمثلها ممداني تقترح طريقًا ثالثًا: لا وعود حالمة، ولا ضجيج انتخابي، بل فهم للممكن واستثمار في ما هو واقعي..ومن هنا يمكن القول إن هذا الفوز هو تأسيس لمدرسة جديدة في السياسة الأمريكية، مدرسة تعيد المعنى للسياسة وتضع المواطن في مركزها.

بداية لا نهاية

قد يبدو ما حدث في نيويورك مجرد فوز لعمدة في مدينة كبيرة، لكنه في الواقع أكبر من حدود هذه المدينة.. إنه مؤشر على تبدّل عميق في وعي الناخب الأمريكي، وعلى بداية تحول في شكل السياسة نفسها. إذ إن الواقعية السياسية التي يمثلها ممداني قد تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ الديمقراطية الأمريكية من الانقسام الحاد بين التطرفين: شعبوية الغضب ونخبوية التعالي.

إذا صحّ هذا المسار، فإن فوز ممداني سيُذكر لاحقًا أنه أول ملامح ولادة "أمريكا الثالثة"؛ لا هي أمريكا ترامب، ولا أمريكا بايدن، بل أمريكا الناس العاديين.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد