أوراق سياسية

46 عامًا على اقتحام السفارة: كفّة "التيار الثوري" تَرجح

post-img

محمد خواجوئي (الأخبار)

مرّ 46 عامًا على اليوم الذي تسلّق فيه الطلبة الإيرانيون الثوريّون جدران السفارة الأميركية، في طهران - والتي أطلقوا عليها اسم "وكر التجسّس" -، بعد أشهر قليلة من انتصار الثورة الإسلامية، عام 1979. في الرابع من تشرين الثاني من ذلك العام، الذي سمّاه مؤسّس الجمهورية الإسلامية، آية الله روح الله الخميني، "الثورة الثانية"، وسُجّل في التقويم الإيراني بعنوان "اليوم الوطني لمكافحة الاستكبار"، دخلت العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، مرحلةً مفصلية جديدة. البلدان اللّذان جمعتهما علاقات وثيقة لأكثر من نصف قرن، في عهد الملكية البهلوية، انقطعت بينهما الصلات بعد الثورة، خصوصًا إثر احتلال السفارة الأميركية، ليدخلا مذّاك حقبةً من الخصام والمواجهة. ورغم أنّ المفاوضات بينهما لم تنقطع كلّيًا في أثناء العقود الماضية، وجرى أحيانًا التوصّل عبرها إلى تفاهمات محدّدة أو تعاون موضعي، إلا أنّ أيًّا من هذه المحطّات لم تتحوّل إلى تعاون طويل الأمد.

وعلى امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، أُعيد إنتاج الجدل في إيران، حول العلاقة مع الولايات المتحدة، في إطار سرديّتين أساسيّتين: الأولى، ثورية، تعتبر أميركا، مصدر تهديد دائم، وأيّ تعاطٍ معها مدخلًا إلى تقويض النظام؛ والثانية، واقعية، ترى أنّ تعزيز أمن إيران، وتنميتها الاقتصادية وتحسين موقعها الجيوسياسي، يقتضيان تسوية ملفّ المواجهة مع واشنطن. وبحسب الرؤية الأولى، التي يمثّلها المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، فإنّ العداء مع أميركا ليس نتيجة سوء فهم، إنّما تضادٌّ بنيوي في الهوّية؛ فإيران الثورية القائمة على الاستقلال السياسي ورفض الهيمنة لا تنسجم مع نظام عالمي تشكّل الولايات المتحدة محوره، في حين أنّ الانفتاح على واشنطن يبدو بلا نهاية محدّدة، وهو ما يُردّ إلى أنّ الهدف الأميركي النهائي يتمثّل في تغيير السلوك الإستراتيجي لطهران في أربعة مجالات محورية: السياسة الإقليمية والقدرات الصاروخية وهوّية الثورة ونموذج الحوكمة. وممّا يدلّ على ذلك، أنه كلّما أبدت إيران مرونةً، رفعت الولايات المتحدة، سقف مطالبها: من اتفاق سعد آباد، عام 2003 (تعليق تخصيب اليورانيوم)، وصولًا إلى الاتفاق النووي عام 2015.

ومن هنا، يرى التيار الثوري أنّ الاستناد إلى القوّة الصلبة والعمق الإقليمي والردع الاقتصادي - الأمني، يمثّل مصدر النجاح، لا التفاوض لخفض الضغوط، نظرًا إلى أنّ أي اتفاق سيكون من شأنه في خاتمة المطاف تفعيل "العتبة التالية" في المواجهة، وليس إنهاء الصراع. ويستشهد أنصار هذا الخطّ بالتجربتين الليبية والعراقية وحتّى الأوكرانية، للدلالة على هشاشة الضمانات الغربية، معتبرين أنّ الردع الحقيقي يكمن في "القدرات المحلّية غير المتماثلة". ولا يرفض هؤلاء العلاقات بالمطلق، لكنّهم يحصرونها بظروف محدودة، مشدّدين على أنّ أيّ تبعيّة في التكنولوجيا أو الشؤون المالية والأمنيّة، قد تفتح الباب أمام توغّل أميركي، في البنية الداخلية الإيرانية، وأمام استنزاف تدريجي للاستقلال الإستراتيجي للجمهورية الإسلامية.

وفي كلمة له، الاثنين الماضي، بمناسبة ذكرى احتلال السفارة، أشار خامنئي إلى أنّ بين إيران والولايات المتحدة، "خصامًا وعدم انسجام ذاتي" و"تعارض مصالح". وقال إنّ "تصريحات الأشخاص الذين يعتبرون إطلاق هتاف "الموت لأميركا"، سبب العداء الأميركي للشعب الإيراني، هي بمنزلة كتابة التاريخ بالمقلوب. إنّ هذا الهتاف ليس بالمسألة التي تدفع بأميركا إلى مناصبة شعبنا العداء. إنّ مسألة أميركا مع الجمهورية الإسلامية تكمن في الخصام الذاتي وتعارض المصالح". كذلك، وضع المرشد شروطًا يمكن في حال تحقيقها بحث التعاون، قائلًا إنه "إذا تخلّت أميركا بالكامل، عن دعم الكيان الصهيوني، وأزالت قواعدها العسكرية في المنطقة ونحّت تدخّلاتها جانبًا، فإنّ هذه القضية ستكون قابلة للدراسة". ومع هذا، أكّد خامنئي أنّ "المطالب الأميركية للتعاون مع إيران، ستكون قابلة للدراسة ليس في المستقبل المنظور، بل في الآجال اللاحقة".

في المقابل، يدعو التيار الواقعي - الاعتدالي، الممتدّ من آية الله هاشمي رفسنجاني، إلى تيارات داخل حكومتَي محمد خاتمي وحسن روحاني، وصولًا إلى بعض أجنحة إدارة الرئيس مسعود بزشكيان، إلى ما يسمّيه "التطبيع الإستراتيجي". ويرى هذا التيار أنّ جذور الأزمة لا تكمن في تضاد الهوّية، بل في "تكدّس سوء الظنّ" والتنافس الجيوسياسي، وأنّ مزيجًا من الانفتاح الإقليمي والدبلوماسية الاقتصادية والحوار المرحلي يمكن أن يقلّص تهديدات الطرف الآخر.

ويعتبر هؤلاء أنّ الأخطار الفعلية على إيران حاليًّا لا تنبع من احتمال "هجوم عسكري من العيار الثقيل"، بل من الضغوط الاقتصادية والقيود التكنولوجية والعقوبات المصرفية والعزلة المالية. وبالتالي، يرون أنه يجب إيجاد حدٍّ أدنى من التفاهم مع واشنطن، كون الأخيرة محور شبكة العقوبات والتحكّم بالتكنولوجيا. وفي رأيهم، فإنّ أضرار الانغلاق في عصر العولمة تفوق منافع العزلة، نظرًا إلى أنّ التنمية المستدامة تحتاج إلى استثمارات أجنبية، ووصول إلى الأسواق المالية الدولية وخفض المجازفة السياسية.

ويستدلّ أنصار هذا الاتّجاه بتجربة الاتفاق النووي، رغم نواقصه، باعتباره نموذجًا لـ"إمكانية احتواء الأزمة" دبلوماسيًا. ويعتبرون أنه في حال تعزّزت الضمانات، فإنّ من شأن الاقتصاد الإيراني أن يحقّق قفزات إلى مرحلة جديدة. وعلى صعيد الهوّية، يرى هؤلاء أنّ "العداء الأبدي" فخّ تحليلي، وأنه بوسع الأنظمة التعاون مع خصومها السابقين من دون التفريط بالاستقلال، مثلما فعلت الصين والولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي.

هكذا، يبدو أنّ نقطة التناقض الجوهرية بين التيارين تتمحور حول "التعويل على تغيّر السلوك الأميركي". إذ يرى التيار الثوري أنّ الولايات المتحدة، هي قوّة هيكلية تتعارض جذريًا مع مبادئ الثورة، وأنّ أيّ تنازل إيراني، في حال حصوله، سيُقابَل بمزيد من الضغوط لإعادة تعريف النظام الداخلي في إيران. أمّا التيار الواقعي، فيرى أنّ هذا التعارض البنيوي يمكن "إدارته"، وأنّ كلفة الإبقاء عليه باهظة. وفي حين يراهن الأول على الاكتفاء الذاتي الإستراتيجي والاقتصاد المقاوم، يعتبر الأخير هذين العاملين غير كافيَين لضمان الرفاه والتنمية المستدامة. أمّا على الصعيد الإقليمي، فيرى الثوريون أنّ العمق الجغرافي هو شرطٌ للاستدامة الأمنيّة، في حين يعتبره الواقعيون مصدر احتكاكٍ دائم مع الغرب.

وإذا كانت التطوّرات الأخيرة، ولا سيّما فشل المفاوضات بين طهران وواشنطن، وضغوط الأخيرة لدفع الأولى إلى "الاستسلام"، ثمّ الهجوم الأميركي - "الإسرائيلي"  المشترك، قد ساهمت في ترجيح كفّة الرؤية الثورية في السياسة الخارجية الإيرانية، فإنّ الصراع بين هاتين الرؤيتَين لم يُحسم بعد، ويبدو أنه سيبقى أحد أبرز التصدّعات في السياسة الإيرانية لسنوات مقبلة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد