أوراق سياسية

لبنان بين رسائل النار وصعود زهران ممداني: تحوّلات الإقليم وارتدادات الداخل

post-img

ميرنا دلول (مناشير)

يعيش لبنان مرحلة دقيقة من تاريخه الحديث، بين تهديدات "إسرائيلية" متكرّرة بفتح حرب واسعة على الجنوب، ومساعٍ دبلوماسية مكثّفة لاحتواء الانفجار. في الوقت ذاته، يشهد العالم تحوّلات رمزية كبرى، من فوز السياسي المسلم زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، إلى حراك عربي وغربي متسارع تجاه بيروت، وصولًا إلى تصاعد السجالات الداخلية بين القوى اللبنانية. كلّ ذلك يجعل من الساحة اللبنانية مرآةً لتقاطعات السياسة الدولية وصراعاتها المتشابكة.

لم تعد التهديدات "الإسرائيلية" مجرد رسائل إعلامية. في الأيام الأخيرة، تصاعدت نبرة قادة تل أبيب بالحديث عن “خيار الحرب المفتوحة” على لبنان، بحجة “إنهاء خطر حزب الله”. لكن خلف هذه التصريحات، تكمن حسابات أكثر تعقيدًا.

فالإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب تبدو ممزّقة بين جناحين: الأول يدفع نحو ضبط التصعيد خشية توريط واشنطن في نزاع جديد، والثاني يرى في التوّتر مع حزب الله وسيلة لإعادة فرض النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.

ترامب، المعروف بأسلوبه البراغماتي، يحاول الموازنة بين رغبة "إسرائيل" في توجيه ضربة وبين حاجته لعدم تفجير لبنان بحرب واسعة لحسابات استثمارية اقتصادية وليظهر بمظهر المخلص للبنان. لذلك، يتحرك بمرونة: تهديد من جهة، ورسائل تهدئة من جهة أخرى.

في موازاة هذا المشهد الملبّد، جاءت صدمة نيويورك بفوز زهران ممداني ـ السياسي المسلم من أصول إفريقية ـ في انتخابات بلدية المدينة، ليصبح أول مسلم يتبوأ هذا المنصب في تاريخها.

هذا الفوز لم يكن حدثًا انتخابيًا عابرًا، بل تحوّل رمزي عميق في الوعي الغربي تجاه المسلمين والعالم العربي. فتصريحات ممداني الأولى بعد فوزه، التي تضمّنت انتقادات حادّة لسياسات بنيامين نتنياهو وتحذيرات غير مباشرة لدونالد ترامب، دوّت في تل أبيب كصفعة سياسية وإعلامية.
ففي لحظة يتصاعد فيها العدوان "الإسرائيلي"  على لبنان وغزّة، يأتي صوت مسلم من قلب نيويورك، مركز القرار المالي والإعلامي في العالم، ليقول بوضوح: “آن الأوان لمحاسبة "إسرائيل" على جرائمها”.

انعكاسات هذا الحدث تتجاوز نيويورك إلى كلّ العالم الإسلامي، حيث يُنظر إلى ممداني بوصفه رمزًا لولادة جيل سياسي جديد قادر على اختراق الجدران الغربية، والتعبير عن قضية العرب والمسلمين من داخل مؤسسات السلطة.

أما في لبنان، فقد أثار فوزه نقاشًا بين النخب حول إمكانية تحوّل المزاج الغربي تجاه "إسرائيل"، ومدى قدرة هذا التحوّل الرمزي على تخفيف الضغوط السياسية والدبلوماسية عن المقاومة اللبنانية.

في الداخل اللبناني، تصدّرت المشهد الرسالة المفتوحة التي وجّهها حزب الله إلى الرؤساء الثلاثة، محمّلًا إياهم مسؤولية حماية لبنان في وجه التهديدات "الإسرائيلية".
هذه الخطوة النادرة في توقيتها وصياغتها لم تكن مجرد تذكير بواجب الدولة، بل رسالة سياسية مزدوجة: تحذير من ترك الجنوب مكشوفًا، وتأكيد على أن الحزب لن يسمح بعزل قراراته الميدانية عن القرار الوطني العام.

في المقابل، قرأ خصوم الحزب الرسالة كنوع من الضغط المبطّن لإعادة تشكيل معادلة السلطة في بيروت، وربما تمهيدًا لتسوية أوسع تُطبخ في الكواليس الإقليمية.
تتزامن هذه التطورات مع حراك دبلوماسي غير مسبوق. إذ يصل إلى بيروت الموفد السعودي، يرافقه مسؤول رفيع المستوى، في زيارة وُصفت بأنها “حاسمة”، وسط أنباء عن ورقة تفاهم عربية لتثبيت التهدئة وفتح كوة في جدار الأزمة.

وفي الأسبوع المقبل، يحلّ وزير الخارجية البريطاني ضيفًا على لبنان، في جولة أوروبية تهدف إلى منع أي انهيار أمني أو سياسي قد يهدّد استقرار المتوسط، ورسائل من تحت الطاولة حول المفاوضات. . أضف إليهم الموقف المصري الداعي إلى تفعيل المفاوضات عوضا عن الحرب.

في ظل هذا الزخم الخارجي، يغرق الداخل اللبناني في سجالات لا تنتهي. ملف الانتخابات النيابية عاد إلى الواجهة: بين من يصرّ على احترام المهل الدستورية باعتبارها “آخر مظاهر الشرعية”، ومن يرى أن الظروف الراهنة لا تسمح بخوض استحقاق ديمقراطي في ظل الشلل المؤسساتي والتهديدات الأمنية، بين مؤيد للقانون الانتخابي القديم ومطالب بالتغير، ودور المغتربين وعميلة تنخيبهم.

وفي الوقت نفسه، تتفاقم المواجهة الكلامية بين سمير جعجع ونبيه بري، في مشهد يعكس عمق الانقسام السياسي والطائفي. فكلّ  فريق يسعى لتثبيت موقعه في المعادلة المقبلة، سواء كانت تسوية داخلية أو فرضًا إقليميًا جديدًا.

في المحصلة، يبدو لبنان اليوم أكثر من مجرد ساحة نزاع. إنه مرآة لمرحلة دولية جديدة تتقاطع فيها الرمزية السياسية لفوز مسلم في نيويورك مع لغة التهديد "الإسرائيلية" في الجنوب، ومع حراك عربي وغربي يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

قد لا تغيّر هذه الأحداث المعادلة فورًا، لكنّها تكشف أن العالم يتحرّك نحو وعيٍ سياسي جديد.

أما لبنان، فبين رسائل النار ورسائل الأمل، يبقى السؤال معلّقًا: هل سيصمد مرة أخرى على خط النار ليحوّل تهديد الوجود إلى فرصة ولادة جديدة؟

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد