ربى أبو فاضل (صحيفة الديار)
في لبنان، حيث لا تهدأ الأزمات منذ سنوات، عاد هاجس السكن ليطرق أبواب اللبنانيين مرة جديدة. فمع نزوح مئات العائلات من الجنوب والبقاع بسبب التصعيد الأمني والقصف الإسرائيلي العبثي، زاد الضغط على سوق العقارات في المدن الكبرى، مما أدى إلى موجة استغلال ورفع جنوني للاسعار، في ظل غياب أي تدخل رسمي أو إجراءات رقابية، تضبط الأسعار لحماية المستأجرين، لتتفاقم أزمة السكن وتصبح وجهاً آخر للانهيار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
يرجع الخبراء الارتفاع الحاد في أسعار الإيجارات في لبنان، إلى تداخل مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فالتوترات المستمرة على الحدود الجنوبية، والاعتداءات المتكررة للعدو الإسرائيلي، أدت إلى موجات نزوح داخلي متزايدة، ما رفع الطلب على السكن في المناطق الأكثر أمانا، بالتوازي مع عودة جزئية لعائلات نازحة من المناطق الحدودية إلى المدن والبلدات الداخلية.
إلى جانب التوترات الأمنية، شكل انهيار العملة الوطنية، وارتفاع سعر صرف الدولار عوامل إضافية، زادت من الضغط على المستأجرين، خاصة مع تراجع حركة البناء وقلة المعروض من المساكن، بسبب الهجرة الكثيفة للعائلات اللبنانية إلى الخارج، هذا التوازن المضطرب بين العرض والطلب، حوّل السوق العقارية إلى ساحة مفتوحة للمضاربة ورفع الأسعار بلا ضوابط، وسط غياب أي رقابة رسمية أو سياسة إسكانية واضحة منذ توقف برامج القروض المدعومة.
ويصف خبراء الاجتماع أزمة الإيجارات بأنها قنبلة اجتماعية موقوتة، إذ إن غياب الاستقرار السكني يخلّف اضطرابات نفسية وعائلية، خصوصا لدى الأطفال، ويعمّق الفوارق الطبقية بين من يملكون المأوى ومن يُحرمون منه.
معاناة العائلات
في ظل هذا الواقع، تواجه العائلات اللبنانية واللاجئة على حد سواء أزمة سكن خانقة، فالأجور المتدنية لا تكفي لتغطية بدل إيجار بسيط، ما يدفع العديد من الأسر إلى الانتقال إلى مساكن أصغر، أو مشاركة المنازل بين أكثر من عائلة، أو العودة إلى القرى رغم المخاطر الأمنية. فبين الجنوب والعاصمة وجبل لبنان، تتقاطع قصص الناس لتكشف وجهاً جديداً من المعاناة اليومية.
تقول ريما وهي أم لثلاثة أطفال، نزحت من الجنوب قبل أسبوعين: "أجار البيت متواضع جدا بالجديدة يصل إلى 500 دولار، ولا حل أمامنا إلا القبول فلا بديل".
أما عماد وهو من الضاحية قال: "فوجئنا بالأسعار التي تضاعفت أحيانا ثلاث مرات مقارنة بالسنة الماضية، لم نعد نعرف كيف سندفع الإيجار، خاصة بعد فقدان جزء كبير من مدخراتنا".
وقالت مها وهي أم لأسرة مكونة من خمسة أشخاص: "لقد عدنا من مناطق القصف إلى بيت أقاربنا، فإيجار شقة صغيرة أصبح حلما بعيد المنال، ومعظم العائلات هنا تضطر لمشاركة المنزل مع عائلات أخرى".
ويروي جورج وهو موظف في القطاع العام معاناته اليومية، التي تشبه معاناة أغلب المواطنين: "أعيش في شقة صغيرة في الأشرفية، وفجأة طلب رفع بدل الاجار إلى 900 دولار، حاولت التفاهم معه لكنه رفض، اضطررت للانتقال إلى منطقة أبعد وأرخص، لكن التنقل اليومي صار عبئا آخر".
أما أصحاب العقارات فيعتبر بعضهم أن "ارتفاع الإيجارات مبرر" في ظل الغلاء العام. يقول مالك بناية في بيروت "نحن أيضا متضررون، فواتير الكهرباء والمولد والضرائب ارتفعت وكلها بالدولار، وإذا بقي الإيجار كما هو لن أستطيع صيانة المبنى، أو حتى تسديد التكاليف الأساسية".
هذه الشهادات المتناقضة بين من يبحث عن مأوى، ومن يحاول الحفاظ على ملكه، تعكس واقعا سكنيا مأزوما، تتداخل فيه الحاجة الإنسانية مع الفوضى الاقتصادية، وتغيب عنه أي مظلة تنظيمية أو رقابة رسمية.
غياب سياسة سكنية وطنية متكاملة منذ عقود
يرى الخبراء أن أزمة الإيجارات لم تولد من رحم الحرب الأخيرة ، أو الانهيار الاقتصادي الراهن فحسب، بل هي نتيجة تراكمات طويلة الأمد ناجمة عن غياب سياسة سكنية وطنية متكاملة منذ عقود. هذا الغياب ترك السوق العقارية تتحرك من دون بوصلة، تخضع للمضاربات والمصالح الخاصة، بدل أن تدار وفق رؤية تنموية عادلة ، تضمن حق السكن لكل فئات المجتمع.
فاليوم، تحدد بدلات الإيجار بشكل عشوائي وفق مزاج السوق وسعر صرف الدولار، من دون أي ضوابط قانونية أو سقوف تحمي المستأجرين، ما حول السكن من حق أساسي إلى امتياز اجتماعي واقتصادي لا يناله إلا القادرون على الدفع بالدولار نقدا.
ويشير الخبراء إلى أن هذا الواقع المتفلت، عمق الفجوة بين المالك والمستأجر، وأنتج فوضى عقارية تتغذى من انهيار الليرة وارتفاع الأسعار، فيما بقيت الدولة غائبة عن دورها التنظيمي والرقابي، فالقوانين القديمة لم تعد صالحة لمواكبة الواقع المالي الجديد، والقوانين الحديثة غائبة أو مجمدة في أدراج الإدارات، ما جعل السوق رهينة مبدأ "العرض والطلب" غير العادل في ظل أزمة معيشية خانقة.
إلى جانب ذلك، يفاقم غياب أي سياسة تشجيعية للاستثمار في مشاريع السكن الاجتماعي أو المدعوم من عمق الأزمة، إذ تفتقر الدولة إلى رؤية إسكانية تراعي الفئات محدودة الدخل، وتوفر لهم خيارات سكنية آمنة ومستقرة، بعيدا عن استغلال المالكين أو تقلبات السوق، وفي ظل تآكل مداخيل المواطنين، وانعدام فرص التملك، بات كثيرون مهددين بفقدان مساكنهم أو العيش في ظروف غير إنسانية.
لا يوجد مرجع رسمي يحدد سقفا للإيجارات
مصدر قانوني أوضح أن "الدولة غائبة تماما عن الرقابة على الأسعار، فلا يوجد مرجع رسمي يحدد سقفا للإيجارات، ما يجعل السوق رهينة للمضاربات والمزاج الفردي". ويضيف أن "البلديات لا تملك الصلاحيات أو الإمكانات لضبط السوق، في حين أن وزارة الشؤون الاجتماعية تكتفي برصد الظاهرة من دون أي تدخل فعلي لحماية الفئات الضعيفة".
ويرى المتخصصون أن الخروج من هذا النفق لا يمكن أن يتحقق، إلا بمقاربة شاملة تجمع بين التنظيم القانوني والدعم الاجتماعي، فمن الضروري أولاً فرض ضوابط واضحة على رفع بدلات الإيجار، بما يحقق توازناً بين حقوق المالكين وقدرة المستأجرين على الدفع، مع إلزام جميع الأطراف بعقود رسمية تضمن الشفافية وتحمي من الاستغلال.
كما يشددون على أهمية تطوير مشاريع سكنية مدعومة حكوميا للفئات الأكثر ضعفا، وتفعيل برامج التمويل البنكي منخفض الفائدة لتشجيع بناء مساكن جديدة تزيد من حجم العرض وتخفف الضغط على الأسعار، إلى جانب ذلك، تعتبر حملات التوعية بحقوق المستأجرين ومفهوم السكن اللائق خطوة أساسية لترسيخ ثقافة العدالة السكنية، وتحويل قضية الإيجارات من مشكلة ظرفية إلى ملف وطني يستحق التخطيط والمعالجة المستدامة.
تتجدد أزمة الإيجارات اليوم كوجه آخر لانهيار الدولة، فبين المالك الذي يلهث خلف الدولار، والمستأجر الذي يهرب من الخطر، والدولة التي تتفرج من بعيد، أصبح السكن في لبنان رهينة للحرب والفوضى. وإذا لم تبادر الحكومة إلى وضع خطة إسكانية طارئة تشمل مراقبة الأسعار، دعم الإيجارات للفئات الأضعف، وتفعيل القروض السكنية، فإن لبنان قد يشهد قريباً موجة تشريد داخلية جديدة، عنوانها: "البيت لمن يستطيع الدفع بالدولار".