اوراق مختارة

أطفال غزّة يبحثون عن كتبهم وسط الرماد

post-img

 جمال العتّابي/ جريدة القدس العربي

كانت الأم تجلس على الأرض، بين أكوام الركام الذي كان يوماً بيتاً، النار ما تزال تلتهم ما تبقّى من جدران، الهواء مشبّع برائحة البارود والرماد. هذا المشهد، عرضته شاشة إحدى الفضائيات العربية لبضع دقائق مرّت سريعاً. عدد من أطفال غزّة التفّوا حول أمهم كطيور مذعورة، يراقبون الدخان يتصاعد وسط مدينة الأشباح. غير أنها فرشت على ساقيها «كتاب القراءة»، كتاباً ممزق الأطراف، مسوّد الصفحات، تقلّب أوراقه بأصابع مرتجفة، وتتهجى الحروف كما تتهجى صلاتها.

لم يكن المكان مدرسة، ولا الزمان وقت درس، خلف الأطفال بيوت محترقة، وأمامهم صمت مدينة مهدّمة، وفوق رؤوسهم سماء رمادية لا لون فيها، تبدو كأنها ملبّدة بالرصاص، وشظايا أرواح تبعثرت في الطرقات. والبحر نفسه بدا حزيناً تتكسر أمواجه على جدران لم تعد موجودة. في هذا الخراب الشامل كانت هناك حياة تحاول أن تتنفس.. صغيرة، نحيلة، لكنها عنيدة، أطفال يحملون دفاترهم المحروقة، وبقايا أقلام، يمشون بين الركام يبحثون عن مدرسة كانت هنا، لم يبق منها إلا اللوح المائل على جدار مهدّم.

كان الأطفال يتطلعون إلى أمهم بأسئلة معلقة في العيون:

ـ ماما متى نرجع إلى المدرسة؟

من حقهم أن يسألوا، لكنها تعلم أن لا جواب للأسئلة.

ـ ستعود يا ولدي حين يخفت اللهب، أجابت الأم. ثم رفعت رأسها نحو الأفق الرمادي، وأغمضت عينيها لحظة صمت طويلة، لكن الطفل الأكبر سألها بصوت واهن:

ـ لماذا أطفال العالم يذهبون إلى مدارسهم كل صباح، ونحن نبحث عن مدرستنا بين الركام؟ لماذا لا نكون مثلهم يا أماه؟

تناول أحد الأطفال بيده حجراً متفحماً، مسكه من أحد أطرافه، وترك الطرف المدبب يرسم دائرة حول مكانهم، وكتب ببطء «مدرستنا الجديدة «، لم تكن هذه المرّة الأولى التي ينهض فيها الأطفال من تحت الأنقاض ليكملوا الدرس.

كانت الأم تعلّم أبناءها كيف ينطقون الحرف، وهي تجلس على تراب حار لم يبرد بعد من آثار القصف. اقترب الأطفال منها أكثر، كأنّ الدفء الوحيد المتبقي في العالم يتجمّع عند صوتها. يحدّقون في خطوط الكتاب. هنا قلبت الصفحة الأولى ومسحت الغبار عن الحروف، وقالت بصوت متهدّج: نبدأ من جديد، من الألف، وهذا الباء.. يشبه حضن الأم. هذه الأثناء تذكرت مشاهد مشابهة من التاريخ: في الحروب القديمة، حين دُمّرت قرطبة، كانت النساء يعلمن الأطفال في الأقبية المظلمة حروف العربية ليحفظوها من النسيان، ها هي غزّة اليوم تعيد الحكاية نفسها. في تلك اللحظة لم يكن الدرس درساً في اللغة، بل في البقاء. كانت الأم تعلّم أبناءها كيف يواصلون الحياة.

في الحرب العالمية الثانية، يعود الأطفال بعد أيام يبحثون عن كتبهم بين الجثث في المدن الألمانية المدمّرة. في (ستالينغراد)، حين كانت المدينة محاصرة، والجوع يفترس الصغار، كانت المعلمات يكتبن الدروس على آجر متناثر ومهشّم. في بيروت السبعينيات، في زمن الحرب الأهلية، كانت صفوف المدارس تنتقل إلى الملاجئ. تقول إحدى الأمهات وهي تراقب أبناءها من بعيد، يحملون دفاترهم فوق رؤوسهم: التعليم في أكثر التاريخ ظلمة، كان دائماً إعلان مقاومة، في معسكرات الاعتقال النازية كتبَ الأسرى قصائدهم على قطع الخبز اليابس، في جنوب افريقيا في ظل نظام الفصل العنصري، علّم الوطنيون أبناءهم القراءة في الخفاء، لأن القراءة كانت فعلاً مقاوماً. لكن لماذا يدفع الأطفال ثمن جنون مشعلي الحروب؟ تتساءل الأم، يدفعون ضريبة عنف لم يختاروه، كأنهم تعلموا تجارب التاريخ ووعورة الطرق، ليكتبوا وصيتهم للعالم: دعونا نعيش بسلام!

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد