أوراق ثقافية

زهران ممداني وما حلم به الفنانون منذ سنوات

post-img

قبل أيام من إعلان نتائج الانتخابات التي فاز فيها زهران ممداني نشرت الفنانة الأميركية الشابة مولي كرابل (Molly Crabapple) على صفحتها في "إنستغرام" لوحة تُظهره وسط مؤيديه، وأرفقتها بتدوينة مؤثرة تحدثت فيها عن الأمل الذي تمثله حملته عند جيلٍ من الفنانين والناشطين في نيويورك. كتبت تقول: "لسنا على وشك انتخاب شخص فحسب، بل نُنجز معًا ما حلمنا به منذ سنوات من الاجتماعات الصغيرة والاعتصامات واللافتات". كانت كرابل، المعروفة بمواقفها المناهضة لحرب الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، واحدة من عشرات الفنانين الذين وجدوا في ممداني تجسيدًا لرؤيةٍ جديدة تُقارب بين الفن والسياسة، وتعيد إلى المدينة روحها التقدمية التي طالما جعلت منها منارةً للفكر والإبداع.

هذا التأييد الواسع الذي حظي به ممداني من الوسط الفني والثقافي في نيويورك لم يكن مستغربًا؛ فالرجل ينتمي إلى بيئة ثقافية وفنية، وانخرط هو نفسه لسنوات في مجال الغناء والموسيقى. كل هذه التفاصيل جعلته أقرب إلى مناصريه من العاملين في قطاع الإبداع الذين رأوا فيه صوتًا يشبههم ويمثّلهم. والدة ممداني هي المخرجة السينمائية المعروفة ميرا ناير، صاحبة أفلام "سلام بومباي" و"العائلة الهندية"، ولا بد أن تلك النشأة داخل بيتٍ يُمارَس فيه الفن بوصفه فعل حياة تركت أثرًا واضحًا في نظرته إلى السياسة، التي لا يراها مجرد إدارة لشؤون الناس، بل نوعًا من السرد الجماعي للعدالة والتمثيل. وقد صرّح في أحد لقاءاته قائلًا إنّ "الفن والسياسة يشتركان في جوهر واحد، هو القدرة على سرد الحكاية".

قبل دخوله المعترك السياسي، مارس ممداني الموسيقى لفترة تحت اسم فني هو Mr. Cardamom. كانت أغانيه تمزج بين الإيقاعات الشرقية وأخرى من موسيقى الشوارع في نيويورك. وقد جعلته هذه التجربة يفهم من الداخل الصعوبات التي تواجه الفنانين في المدينة، مثل الإيجارات المرتفعة، وغياب المساحات المخصّصة للعمل، وعدم استقرار الدخل. لهذا، حين قرّر الترشح إلى منصب عام، حمل معه تلك القضايا إلى برنامجه السياسي، ليربط بين الفنّ والسياسات اليومية التي تؤثر في حياة المبدعين.

منذ بداية حملته الانتخابية، تبلور تحالف واسع بين ممداني ومجتمع الفنون في نيويورك. لم يكن التحالف شكليًا، بل تجسّد في دعم فعليّ من مؤسسات واتحادات فنية، أبرزها Actors Equity Association وهو الاتحاد الذي يمثّل مئات العاملين في المسرح وفنون الأداء. في بيان التأييد الذي أصدره الاتحاد، وُصف ممداني بأنه "صوت الفنانين في السياسة"، وأنه المرشح القادر على تحويل المعاناة اليومية للعاملين في القطاع الإبداعي إلى سياسة عامة.

في الأحياء البعيدة عن مانهاتن، حيث تنشط منظمات الفنّ المجتمعي، لاقى ممداني استقبالًا حارًّا من الفنانين الذين ينظّمون ورش الرسم والموسيقى للأطفال والمراهقين. هؤلاء رأوا في برنامجه الاقتصادي والاجتماعي مساحة نادرة للاعتراف بجهودهم، خصوصًا أنه شدّد في أكثر من لقاء على أنّ الفن ليس ترفًا، بل حاجة إنسانية توازي التعليم والصحة. وقد ركّز على أنّ العدالة الثقافية لا تتحقق إلا إذا كان في وسع الفنانين أن يعيشوا بكرامة، وأن يجدوا مساحات ميسّرة للعمل والإنتاج والعرض.

اللافت أيضًا أنّ مجتمع الموسيقى المستقلّة، من موسيقيي النوادي الصغيرة إلى العاملين في المشهد الليلي للمدينة، أبدى حماسًا غير مسبوق لحملته، إذ نظّم بعضهم حفلاتٍ موسيقيةً لجمع التبرّعات، فيما أطلق آخرون حملات دعم عبر المنصّات الاجتماعية بشعاراتٍ تجمع بين الفن والسياسة. هذه الفعاليات أسهمت في تحويل حملته إلى ظاهرة ثقافية بحدّ ذاتها، وأعادت النقاش حول العلاقة بين المبدعين والسياسيين في مدينة طالما كانت حاضنة للفنون، لكنّها في السنوات الأخيرة واجهت موجة غلاء غير مسبوقة دفعت بالكثير من الفنانين إلى الهجرة أو التوقف عن العمل.

يبدو أنّ جوهر الدعم الذي حظي به ممداني لا يرتبط فقط بخلفيته العائلية أو انخراطه الشخصي في الفن، بل بقدرته على ترجمة معاناة الفنانين إلى سياسات ملموسة. فقد صرّح أكثر من مرة بأنّه لا يمكن أن يكون هناك فنّ إذا لم يكن للفنانين القدرة على تحمّل الإيجار. تلك العبارة التي تكرّرت في خطاباته الانتخابية لاقت صدى واسعًا في الأوساط الثقافية، لأنها تربط مباشرةً بين أزمة السكن وسياسات المدينة وبين مستقبل الفن نفسه.

البرنامج الذي يطرحه ممداني لا يركّز على المؤسسات الكبرى والمتاحف وحدها، بل يمنح أولوية لمنظمات الفنّ المجتمعي الصغيرة التي تعمل في الأحياء الفقيرة، وللمشاريع التي تتيح للشباب واللاجئين والأقليات مساحة للتعبير الإبداعي، ما اعتبره مراقبون تحوّلًا ديمقراطيًا في فهم الثقافة، فلا تكون حكرًا على النخبة بل ملكًا للناس.

وصفه بعضهم بأنه المرشّح الذي أعاد إلى الفنانين الإحساس بأن صوتهم مسموع، معتبرين أنّ ما حدث في نيويورك مع ممداني يعكس تحوّلًا عالميًا في علاقة الفنون بالسياسة، إذ يسعى جيل جديد من الساسة إلى التعامل مع الثقافة بوصفها قطاعًا إنتاجيًا لا يقلّ عن الصناعة أو التكنولوجيا، ويستحقّ تمويلًا وهيكلًا إداريًا واضحًا. يرى كثيرون أنّ تجربة ممداني قد كشفت عن طاقة كامنة لدى مجتمع الفنون في الدفاع عن مصالحه عبر أدوات الديمقراطية المباشرة؛ فالفنانون الذين اعتادوا العمل في الظلّ وجدوا في هذا التحالف فرصة للانتقال إلى العلن، إلى المساحة التي تُصاغ فيها القوانين ويُتّخذ فيها القرار.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد