معتز منصور/ باحث سياسي
يشهد المشهد الأميركي، اليوم، تحوّلًا جوهريًا يتجاوز نتائج صناديق الاقتراع، ويكسر احتكار النخب السياسية لخطاب العدالة. ليست المسألة صعود شخصيات بعينها بقدر ما هي انعطافة تاريخية تعيد تعريف ما يعنيه أن تكون أميركيًا في عصر تتهاوى فيه وعود اقتصاد السوق الحر.
من قلب المدن المكتظة، من العمال المثقلين بالديون، ومن المهاجرين الذين لم يروا من الحلم الأميركي سوى وجهه القاسي، تتشكّل موجة تقدمية جديدة تقودها وجوه مثل بيرني ساندرز وزهران ممداني وكاتي ويلسون. هؤلاء لم يصنعهم الإعلام، بل صنعتهم أزمات أميركا نفسها.
التغير الحقيقي يبدأ من المدن، تلك التي كانت مختبرات للنمو التكنولوجي قبل أن تتحول إلى ساحات للفقر والإقصاء وغلاء المعيشة. الإيجارات الخيالية، الديون الجامعية، انعدام الرعاية الصحية، احتكار الشركات الكبرى لتفاصيل الحياة كلها، ولّدت وعيًا طبقيًا جديدًا: وعي يرفض أن تكون المدينة منفى للسكان الأصليين من أجل شركات العقار، ويرفض أن يكون العمل عبودية مقنّعة، ويرفض أن تتحول المستشفيات إلى بوابات للدين والذل.
في هذا السياق، بدا واضحا أن الفكرة التقدمية لم تعد مجرد خطاب للنخب الجامعية، بل مزاج اجتماعي تتقاطع فيه قضايا السكن والصحة والعمل مع غضب أخلاقي على واقع سياسي متجمد.
على مدى عقد كامل، ترك بيرني ساندرز أثرًا يتجاوز حملتيه الرئاسيتين. لقد نجح في إعادة تعريف معنى السياسة عبر ترجمة هموم الناس اليومية: قسوة الإيجارات، جشع شركات الأدوية، انهيار الطبقة الوسطى، وتفشي الفقر المقنّع داخل أغنى دولة في العالم. ومع أن المؤسسة الديمقراطية عملت على إجهاض صعوده، إلا أن ما زرعه في جيل كامل لم يعد قابلا للطمس. هذا الجيل هو الذي أنتج لاحقا صعود زهران ممداني وغيره، وهو الذي يمنح اليوم زخما لشخصيات مثل كاتي ويلسون.
صعود ممداني في نيويورك يمثل أحد أهم تجليات هذا التحول. شاب مهاجر، ابن مدينة يعرف أحياءها الفقيرة ومآسي سكانها، دخل السياسة من بوابة النضال الاجتماعي لا من بوابة الطبقة الثرية أو شبكات النفوذ. لم يرفع شعارات إنشائية، بل قدم برنامجا يقوم على فكرة بسيطة: المدينة حق. السكن حق. النقل حق. الصحة حق. وعندما هاجمته لوبيات العقار والإعلام المحافظ، تحولت تلك الحرب إلى وقود دفعته إلى الأمام، لأنه أصبح يمثل شيئا لم تعد النخبة تعرف كيف تتعامل معه: صوت المدينة الفعلية، لا المدينة التي تظهر في نشرات الأخبار.
المشهد نفسه يتكرر، اليوم، في سياتل مع فوز كاتي ويلسون. هي ليست ثورية بالمعنى الكلاسيكي، لكنها تجسيد لوعي تقدمي جديد يرى أن إدارة مدينة ليست وظيفة إدارية؛ هي معركة سياسية ضد الشركات الكبرى وضد عدم العدالة المتجذرة. فازت بمنصب العمدة، وهي تستعد لإدارة ميزانية تتجاوز تسعة مليارات دولار في مدينة تحولت إلى رمز لسلطة شركات التكنولوجيا على السكان. تجربتها المقبلة ستكون اختبارا لمدى قدرة التقدمية المحلية على ترجمة شعاراتها إلى سياسات ملموسة تعيد توزيع الموارد وتعيد القيمة والوجود لفكرة أن الحكومة يمكن أن تكون في صف الناس.
غير أن العامل المفصلي الذي سرّع التحولات الأميركية لم يكن اقتصاديا فقط، كان أخلاقيًا وسياسيًا: الحرب على غزة. تلك الحرب؛ كما كشف حجم الاصطفاف الأميركي الرسمي إلى جانب "إسرائيل"، كشفت أيضًا ما هو أخطر: حجم هيمنة اللوبيات على الإعلام والسياسة والجامعات. رأى الأميركيون الجامعات تعاقب طلابها؛ لأنهم تضامنوا مع فلسطين، ورأوا الإعلام يفرض رواية واحدة، ورأوا الاعتقالات تطال المتظاهرين الذين رفعوا صوتهم.. فجأة انكشف كل شيء: الديمقراطية الأميركية ليست مجرد انتخابات، هي منظومة تخضع لشبكات تمسك بالقرار من خارج إرادة الناس.
هذه اللحظة صنعت شرخًا عميقًا داخل المجتمع الأميركي: أميركا اللوبيات وقفت مع الحرب والعدوان، وأميركا الشعب وقفت مع غزة المظلومة. ومن هنا بدأ الوعي التقدمي يعيد تعريف نفسه. لم يعد ممكنًا أن يكون اليسار الأميركي يسار أجور وإيجارات فقط؛ أصبح يسارًا أخلاقيًا يرى الارتباط بين العدالة في الداخل والعدالة في الخارج. فلسطين لم تعد قضية عالم ثالث، أضحت جزءًا من وعي سياسي جديد يدرك أن الظلم واحد مهما اختلفت الجغرافيا.
هذا التحول لا ينفصل عن انهيار السردية النيوليبرالية التي بشرت بأن السوق سيحل كل شيء. اليوم؛ يتضح أن السوق أنتج أزمات: سكن وديون وصحة، وأزمة ثقة في الدولة. ومع تراجع الطبقة الوسطى واتساع الهوة بين المدن والريف، تتعزز مكانة الموجة التقدمية التي أصبحت تمثل تعبيرًا عن مقاومة مدينية منظمة ضد سلطة الشركات.
إلى جانب ذلك، تؤدي الديموغرافيا دورًا حاسمًا؛ فصعود الأقليات، لاسيما العرب والمسلمين واللاتينيين والآسيويين، أعاد رسم الخريطة السياسية. هؤلاء ليسوا مجرد أصوات انتخابية، هم جزء من الكتلة الفكرية التي تعيد صياغة معنى السياسة في المدن. الجيل الشاب، والذي رأى القمع في الجامعات وفضيحة الروايات الإعلامية خلال العدوان على غزة، بات أكثر ميلا لكسر السردية التقليدية التي حكمت أميركا على مدى عقود.
كما أسهمت منصات التواصل بدورها في إعادة تشكيل المجال العام، بعدما نجحت لأول مرة في كسر احتكار الإعلام المؤسسي للرواية. العدوان على غزة، كان نقطة الانفجار التي جعلت الشبكات الاجتماعية تتحول إلى ساحات للوعي السياسي المباشر، ودفعت المؤثرين التقدميين إلى تأدية دور قيادي في صياغة الخطاب العام.
اليوم، يتساءل كثيرون: هل ستبقى هذه الموجة محصورة في المدن أم ستصعد إلى المستوى الفيدرالي؟
هذا السؤال مفتوح، لكن المؤكد أن المؤسسة الديمقراطية ستواجه صدامًا متزايدًا مع صعود هذا التيار.. فصوت المدينة يتقدم، وصوت المال يتراجع، ولو ببطء.
خلاصة المشهد: أن صعود كاتي ويلسون وزهران ممداني ليس ظاهرة انتخابية عابرة، هو علامة كبرى على أن الولايات المتحدة بدأت تشهد تصدعًا في بنيتها السياسية.
ما يتشكّل اليوم هو يسار جديد لا يشبه يسار القرن العشرين، يسار مديني، أخلاقي، معولم الوعي، يرى فلسطين في قلب قضايا السكن والصحة والعمل. إنها بداية فصل جديد في تاريخ أميركا، فصل يكتب من الأسفل، من الشوارع لا من المكاتب، ومن الناس لا من الشركات. أميركا هذه تتغير… ولن تعود كما كانت.