د. ليلى شمس الدين/ باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام وأستاذة جامعية
في 15 أيلول/سبتمبر من العام 2020، وقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب على منصّة البيت الأبيض، وخلفه أعلام الولايات المتّحدة و"إسرائيل" والإمارات والبحرين. كانت الشمس تنعكس على السجاد الأحمر حين قال عبارته الشهيرة "اليوم نوقّع اتفاقيات ستُغيّر مسار التاريخ… إنّها اتفاقيات بين أبناء إبراهيم".
وثّقت وسائل الإعلام الأميركية هذه اللحظة بدقّة، كونها الإعلان الرسمي لتحويل "الإبراهيمي" من مصطلح لاهوتي، إلى خطاب سياسي يعيد رسم خريطة "الشرق الأوسط". ومع أنّ العبارة بدت للوهلة الأولى دعوة روحية للتلاقي، فإنّ المشهد كان يحمل ما هو أعمق، استخدام الدين واجهة ناعمة لمشروع جيوسياسي صلب.
"انظروا… نحن عائلة واحدة. لا شيء يقف بين أبناء إبراهيم"، تبدو الجملة للوهلة الأولى مفعمة بالسلام، ولكنّ يمكن وصف هذه اللحظة بأنّها "الاستخدام الأكثر نعومة لواجهة دينية تُخفي تحالفًا أمنيًا صلبًا". وفي حقيقة الأمر؛ لسنا أمام طرح هامشي، وإنّما أمام تجسيد دقيق للطريقة التي يُستدعى فيها الدين كقشرة ناعمة تُخفي ما هو أصلب بكثير: مشاريع التطبيع، والتكتّل الأمني، وتثبيت النفوذ الأميركي–الإسرائيلي في المنطقة العربية والعالم.
في هذه الأمسية كنت أتابع شاشات الأخبار ، وبينما كانت الكلمات تتدفّق من منصة البيت الأبيض عن "اتفاق بين أبناء إبراهيم" أدركت أنّ ما يجري لم يكن مجرّد خطوة ثنائية بين دول، بل بداية إعادة رسمٍ لهوية المنطقة نفسها. لم يأت هذا الإدراك عفويًا أو عبثيًا، لأنّ كل دولة كانت تستعد للدخول في الاتفاق لم تكن تتحرّك في فراغ سياسي؛ بل كانت تحمل في حقيبتها ظروفًا محليّة ضاغطة، وحسابات إقليمية حسّاسة، وأثمانًا تفاوضية تتراوح بين الأمن، والاعتراف الدولي، ورفع العقوبات، ووعود اقتصادية كبرى. وإذا ما أحطنا بظروف توقيغ هذه الاتفاقية، نجد إنّها ترسم بحق خريطة لتحوّل إقليمي عميق، تُقرأ عبره سرديات النفوذ، والهويّات الجديدة، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط تحت سقف خطاب "إبراهيمي" يكاد يخفي أكثر ممّا يعلن.
الإمارات على سبيل المثال، دفعت بهذا المسار إلى العلن، أملًا بتعزيز نفوذها التكنولوجي والعسكري، أمّا البحرين فقد رأت في التحالف الجديد مظلّة أمام التوتّرات الإقليمية، من دون أن نتجاهل أنّ السودان وجد في التطبيع بوّابةً للخروج من لائحة الإرهاب، ويبقى المغرب الذي حصد اعترافًا أميركيًا طال انتظاره بسيادته على الصحراء.
مشهد بانورامي يُظهر أنّ كل انضمام، غدا بمثابة صفقة معقّدة تتداخل فيها السياسة بالرمز، والمصلحة بالضغط، والوعود بالتحالفات، تحت سقف الخطاب "الإبراهيمي" الذي روّج له كلغة سياسية نافذة خلال العقد الأخير.
مما لا شك فيه أنّ "الإبراهيمية" لم تُستدعَ بوصفها جسرًا روحانيًا بين شعوب لها تاريخ طويل من الصراع، بل استُخدمت ـمظلّة لغوية لتسهيل انتقال المنطقة إلى هندسة سياسية جديدة، تتضمّن صفقات أمنية وممرّات تكنولوجية وتفاهمات استخباراتية. وبالتالي نجد أنفسنا أمام تغيّر جذري في خرائط النفوذ العالمية من خلال إعادة رسم الشرق الأوسط عبر ثلاث سرديات مركزية تتمحور حول النفوذ، والهوية، والهندسة الجيوسياسية.
سردية النفوذ: انعكاس المقدّس على مسارات القوّة
أعاد الخطاب الإبراهيمي تعريف العلاقات الإقليمية من خلال خلق "قشرة رمزية" تسهّل بناء تحالفات أمنية واسعة تقودها الولايات المتحدة و"إسرائيل." إذ تشير دراسات مجموعة الأزمات الدولية في العام 2021 أنّه وعبر لغة الروابط الدينية المشتركة، جرى تمرير شراكات دفاع صاروخي وتعاون استخباراتي، وشبكات مراقبة إقليمية كما مسارات تسليح عالية التكنولوجيا. وبذلك تحوّلت الإبراهيمية إلى "رافعة ناعمة" تحجب خلفها مشروع نفوذ أميركي–إسرائيلي يطمح لإدارة المشهد الإقليمي بأدوات جديدة.
سردية الهوية.. من العروبة إلى "العائلة الإبراهيمية"
تُظهر أبحاث ويترز في العام 2020 أنّ الهوية الإقليمية يُعاد بناؤها اليوم بعيدًا عن محاور القومية العربية أو فكرة "العالم الإسلامي، عبر استعارة إطار "العائلة الإبراهيمية" هوية جامعة بديلة. وبالتالي يسمح هذا التحوّل بخطوتين أساسيتين:
1. دمج "إسرائيل" هوياتيًا: بدل أن تظهر بحقيقتها قوّة احتلال، تُعرض بوصفها "جارًا روحيًا" ينتمي إلى السلالة نفسها.
2. تخفيف مركزية فلسطين: إذ تُعاد صياغة القضية على أنها خلاف داخلي في العائلة، لا قضية تحرّر من احتلال واستعمار.
هكذا تصبح الإبراهيمية حاضنة لإعادة تعريف الذات الإقليمية وفقًا لسردية لا تُهدّد البنى السياسية الجديدة.
سردية الهندسة الإقليمية.. "شرق أوسط جديد" بلغة قديمة
توضح دراسة راند RAND في العام 2021، أنّ الخطاب الإبراهيمي يوفّر غطاءً سياسيًا وأخلاقيًا للهندسة الإقليمية الجديدة القائمة على تحالفات أمنية موجّهة ضد إيران، وضد ممرّات اقتصادية وتكنولوجية مرعية من واشنطن، إضافة إلى ربط بين الخليج والاحتلال عبر منظومات دفاع مشتركة، مرورًا بمشاريع طاقة واتصال وصناعة أسلحة، وليس انتهاءً بـ "تطبيع اقتصادي ـــــــــ أمني" يُقرأ كـ "سلام روحي". وتحت هذا السقف الرمزي، يجري بناء شرق أوسط مختلف تمامًا عمّا وَعَدَت به شعارات الاستقلال والتحرّر.
تجدر الإشارة إلى أنّ راند RAND وُلدت من قلب المؤسّسة العسكرية الأميركية، وهي تُعد اليوم واحدة من أهم مؤسّسات العالم في مجالات الأمن القومي، والتنبّؤات الاستراتيجية، كما الحرب السيبرانية، ومستقبل التكنولوجيا، والسياسات الخارجية. وفي هذا الإطار، تؤدي دورًا واسعًا في صياغة الرؤية الأميركية تجاه منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط) من خلال هندسة التحالفات الإقليمية، مثل تفسيرها لاتفاقيات إبراهام بوصفها "إطارًا أمنيًا واقتصاديًا موجّهًا لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتّسق مع مصالح الولايات المتّحدة".
.png)
الدين قشرة لمشروع التكتّل الأمني .. والإبراهيمية أداة تطبيع مُلطّفة
تُظهر دراسات راند RAND أنّ الخطاب الإبراهيمي جرى توظيفه لتسويق مشاريع أمنية ضخمة لم يكن يمكن تقديمها مباشرة للرأي العام العربي. إذ جرى ضمن المظلّة الإبراهيمية تمرير تعاون استخباراتي بين "إسرائيل" ودول خليجية، وشبكات دفاع صاروخي مشتركة، إضافة إلى بنى رادارية لمواجهة إيران، وشراكات صناعات عسكرية. كما تصف راند RAND هذا المسار بأنّه "إعادة هندسة للأمن الإقليمي تحت غطاء رمزي ديني". هنا يصبح الدين ـــــــــــ لا بوصفه رسالة روحية ـــــــــــ بل "شيفرة سياسية" تُلطّف خطوة إستراتيجية ثقيلة.
لم يكن اختيار ما سمّي "اتفاقيات أبراهام" إجراءً رمزيًا بسيطًا، كما تشير تحليلات بروكينز، بل "بنية لغوية مُعدّة لتخفيف حساسية التطبيع عبر تحويله إلى عودةٍ إلى جذور مشتركة". وبدل أن يظهر التطبيع اختلالًا في موازين القوى، عُرض على أنه ـمصالحة عائلية بين أبناء إبراهيم. وبذلك يخدم هذا التحوّل اللغوي وظيفة محدّدة، تهدف إلى تليين الوعي العام، وتخفيف الاعتراض الشعبي، إضافة إلى توفير "غلاف أخلاقي" لقرارات سياسية مصيرية وحسّاسة.
تحليلات صدرت عن مؤسسة ليست مجرّد مركز أبحاث؛ بل هي مختبر سياسات يُصاغ فيه جزء كبير من التصوّرات الأميركية تجاه "الشرق الأوسط" والعالم. إنّها مساحة تتقاطع فيها المعرفة مع النفوذ، بحيث تتحوّل الأفكار إلى سياسات، والسياسات إلى سرديات تُعاد عبرها قراءة العالم وإعادة تشكيله.
حين يتحوّل الرمز إلى ظلّ… والظلّ إلى نظام سياسي
أعود الآن إلى لحظة التوقيع في البيت الأبيض، حين نطق ترامب عبارة "أبناء إبراهيم"، بدا وكأنّ "الشرق الأوسط" أُعيد رسمه بكلمة واحدة. لكنّ التأمل العميق يكشف أن السؤال الحقيقي ليس: لماذا قيلت؟ بل: ماذا تخفي؟ فالرموز، ليست أشياء تُرى، بل ستائر تُسدل على أشياء لا يراد أن تُرى. وحين يُستدعى إبراهيم ليقف في الصف مع الصواريخ، والرادارات، ومنظومات الدفاع المشترك، ندرك أن المسافة بين "القدسي" و"السياسي" ضاقت حتى تكاد لا تُرى.
لقد قدّم المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في مؤلفه الثوري "الثقافة والإمبريالية" أدواتٍ لفكّ شيفرة كيفية تحويل الخطابات الدينية إلى "أدوات تبرير للهيمنة"، وهو ما نراه اليوم يتجسّد في مشروع "الديانات الإبراهيمية". يذكّرنا أنّ التحرّر الحقيقي يبدأ بانتزاع حق تفسير تاريخنا ورموزنا من يد المستعمر؛ فالمناداة بالإبراهيمية، لا يمكن أن تنحصر ضمن مشروع ديني، بل هي "استمرار للإمبريالية بأدوات جديدة"، والمقاومة هي المنطلق والأساس لفضح هذه الآلية.
في المحصّلة، ربما تفرض هذه المرحلة لحظة عبور في رحلة أطول. وربما نكتشف بعد سنوات أنّ استخدام الإبراهيمية جسر للتحالفات كان في الحقيقة جسرًا هشًّا فوق وادٍ عميق، وأنّ ما يُبنى على الرموز قد يتداعى حين تطالب الشعوب بما يتجاوز الرمزية. عندما تقاوم لترسيخ قيم الحرّية والعدالة، وبمعنى آخر للعيش الحر الذي يُصنع من تاريخ حيّ ورؤية تنضح بالكرامة للمستقبل.
المراجع
• Alterman, J., & Jones, S. G. (2021). Regional Integration and the Abraham Accords.
• International Crisis Group. (2021). The Middle East between Normalization and Conflict (Report No. 222).
• Wittes, T. C. (2020). The Abraham Accords and U.S. Middle East Strategy.
• Asad, T. (2003). Formations of the Secular: Christianity, Islam, Modernity.
• Kuschel, K.-J. (1995). Abraham: A Symbol of Hope for Jews, Christians and Muslims.
• Casanova, J. (1994). Public Religions in the Modern World.
• Goffman, E. (1967). Interaction Ritual: Essays on Face-to-Face Behavior.