اوراق مختارة

الشاشات والخوارزميات: من سرقة الطفولة إلى تفكيك الأسر

post-img

د. ماجد جابر (صحيفة الديار)

لم يعد حضور الشاشات في حياة أطفالنا تفصيلاً عابرًا يمكن ضبطه بنصيحة عائلية أو ببرنامج رقابة بسيط؛ بل تحوّل إلى قضية وجودية تمسّ معنى الطفولة وحدود الأسرة ووظيفة التربية. نحن أمام لحظة غير مسبوقة، تفيض فيها التكنولوجيا على مساحة الوعي، حيث تنزلق الأجيال إلى عالم تحكمه الخوارزميات، ويتلاشى فيه الحدّ بين الحياة الواقعية والافتراضية. تتحوّل الشاشة من "أداة مساعدة" إلى "بيئة شاملة" تعيد تشكيل علاقة الطفل بعائلته وذاته. فالهاتف الذي نحمله لم يعد أداةً، بل رفيقًا، ومربّيًا مستترًا، ومحرّكًا للعاطفة، وجامعًا للسرّية والوقت والانتباه.

في السنوات الأخيرة، كثرت المقالات والتقارير التي تكشف حجم التغيير في وعي الطفل والمراهق، وتشير إلى أننا نواجه تحديًا يتجاوز مسألة "الإفراط في الاستخدام" ليصل إلى إعادة تشكيل الإدراك، والعلاقات، والسلوك، وصورة الذات. ما كان يُنظر إليه كـ"تطوّر طبيعي" في أدوات الترفيه والمعرفة، صار مصدرًا متناميًا للقلق؛ إذ تتراكم البراهين على أن المسألة لم تعد مرتبطة بكمية الوقت أمام الجهاز بقدر ما تتصل بنوعية التأثير وعمقه، وبالطريقة التي تعيد بها الخوارزميات صياغة الإدراك، وتوجيه الانفعالات، وحصر العالم الداخلي للطفل داخل شاشة لا ترحم ولا تنتظر.

ومع تراكم هذا الكمّ من القرائن، تتصاعد أسئلة مقلقة: هل ما زال الأهل قادرين على حماية وعي أطفالهم في عالم أصبح الهاتف فيه وصيًّا تربويًا؟ هل نراقب أطفالًا يستخدمون الشاشات، أم أطفالًا تعيد الشاشات تشكيلهم؟ هل يمكن لطفولة تقضي ساعاتها في ضوء بارد أن تحتفظ بحرارة اللعب والخيال والعلاقات؟ هل ما زالت المدرسة قادرة على منافسة منصّات تملك جيشًا من المصمّمين والخوارزميات الموجّهة لسلوك المراهق؟ وهل يمكن للمجتمع أن يستعيد دوره في تربية جيلٍ يبحث عن هويته في شاشات لا تعرف الرحمة ولا الحقيقة؟ أم أننا نقترب من عصرٍ يصبح فيه الطفل تابعًا للآلة أكثر من أي قيمة أو مؤسسة بشرية؟

في تقرير The Washington Post (17 تشرين الثاني 2025) بعنوان: “Screen-time worries send parents in increasingly desperate directions”، ترسم الكاتبة مشهدًا لأهالٍ يشعرون أنهم فقدوا السيطرة على عالم أولادهم الرقمي. لم يعد السؤال: كم ساعة مسموح يوميًا؟ بل: كيف نمنع الشاشات من تفكيك حياتنا الأسرية؟ يفتتح التقرير بصورة مألوفة: اتصالات بمدرّب متخصّص في "تدريب وقت الشاشة"، يبحث الأهل عنده عن "رقم سحري" يضبط استخدام أبنائهم للأجهزة. لكنّ جوابه يصدمهم: المشكلة ليست تقنية بل تربوية ونفسية؛ فهذه الأجهزة لم تُصمَّم للأطفال، بل للكبار، ثم أضيفت "إعدادات أطفال" ترقيعية، فيما يحاول الأهل أن يكونوا قسم معلوماتية منزليًا، وشرطة وقت شاشة وفلتر محتوى وخبراء أمن رقمي، ومع ذلك يبقون متأخرين عن أولادهم وعن الشركات التكنولوجية. يكشف التقرير أن الأطفال والمراهقين يتفوّقون على ذويهم في التحايل على القيود؛ يتسلّلون إلى محتوى غير ملائم عبر تطبيقات تعليمية، يستخدمون Google Docs للتنمّر أو تبادل صور غير لائقة، ويستغلّون Bible App للدخول إلى مجموعات سرّية، ما يجعل الرقابة الأبوية التقليدية عاجزة أمام منظومة رقمية معقّدة.

في مواجهة هذا العجز، يسلّط التقرير الضوء على مخيّمات “Reset Summer Camp” : برامج "ديتوكس Detox " تمتد أربعة أسابيع في سكن جامعي، بلا أي جهاز إلكتروني، وبكلفة تقارب ثمانية آلاف دولار للمشارك. في الأسبوع الأول ينهار المراهقون: توتّر، بكاء، أرق، وشعور بانقطاع عن الحياة، ثم يتحوّل هذا الانسحاب إلى تكيّف؛ يستعيدون القدرة على اللعب والضحك والتواصل والنوم، كما لو أنّ الأجهزة كانت تسحب منهم وظائفهم الإنسانية قطعة بعد أخرى. لكن القضية الأكثر مرارةً كما يبيّن التقرير، أنّ الأهل عاجزون عن ضبط استخدامهم الشخصي للشاشات، فينشأ تناقض تربوي صارخ: أسر تحاول "علاج" أبنائها من إدمان تشاركهم فيه.

وعلى خطٍّ موازٍ، تقدّم نشرة After Babel (2 حزيران 2025) مقالًا لـ Clare Morell، الباحثة في Ethics and Public Policy Center، بعنوان: This Summer, Take a Family Digital Detox، يطرح سؤالًا مختلفًا: هل الحلّ في محاولات فردية، أم في خروج عائلي جماعي من الشاشة؟ تنطلق من تجربتها كأمّ، ومن ثلاث سنوات من مقابلات مع عشرات العائلات التي قررت "الهروب من طفولة الهاتف"، لتبيّن أن المشكلة ليست في وجود الشاشات، بل في غياب طفولة بديلة. تسمّي هذا الواقع "فخّ الفعل الجماعي": الجميع متضرّر، لكن لا أحد يجرؤ على أن يكون الأوّل. تقترح الكاتبة وصفة عملية: 30 يومًا من ديتوكس رقمي: لا هاتف، لا ألعاب فيديو، لا سوشال ميديا، مع استثناء وحيد هو فيلم عائلي. وتستند إلى دراسات تُظهر أن أسبوعين من خفض الاستخدام كفيلان بتحسين النوم، والرفاهية، والانتباه، وجودة العلاقات. أما البروتوكولات السريرية التي تستشهد بها، فتشير إلى أن 80% من الأطفال ذوي المشكلات السلوكية شهدوا تحسنًا واضحًا بعد “إعادة ضبط دماغية” رقمية قصيرة.

تكشف مقالات حديثة عن مشهد واحد: أطفال ومراهقون يقضون ساعات طويلة مع هواتفهم، وأهل قلقون غالبًا مستسلمون أمام واقع رقمي جارف. في مقال TIME (30 أيلول 2025) بعنوان «Kids Need Rules About Screen Time»، تطرح الباحثة Jean M. Twenge أنّ المشكلة ليست في التكنولوجيا، بل في غياب قواعد واضحة وحازمة تشبه القواعد المعتمدة مع الكحول: لا يكفي أن نثق بحسن تقدير الطفل أو نردّد «كلّ طفل مختلف»، بل يجب وضع ضوابط ثابتة مثل منع الأجهزة من غرف النوم ليلًا، وتأخير الهاتف الذكي واستبداله بهاتف بسيط في المراحل الأولى، وفرض رقابة حقيقية على المراهقين بدل الاكتفاء بالنصائح العامة. وعلى الضفة الأخرى، يعرض مقال The Guardian (1 شباط 2024) بعنوان «Kids are on their phones more than ever. We asked parents what they’re doing about it» شهادات أهالٍ من أنحاء العالم يصفون شعورهم بالعجز أمام أطفال يمتلك معظمهم هواتف ذكية قبل سنّ المراهقة، ويقضون ما يصل إلى تسع ساعات يوميًا أمام الشاشة، فيما تتراوح محاولات الضبط بين قواعد مثل «لا هاتف على المائدة» و«لا شاشة ليلًا»، واستخدام أدوات الرقابة الأبوية، وإطفاء الـWi-Fi أو المصادرة المؤقتة، أو محاولة «القيادة بالقدوة» عبر تقليل استخدام الأهل أنفسهم. ومع ذلك، يعترف كثيرون بأن أبناءهم صاروا أكثر براعة في التحايل وبناء حياة رقمية موازية. بين دعوة TIME إلى قواعد ملموسة، وصورة The Guardian عن أسر تتخبّط بين الخوف والاستسلام، يتّضح أننا أمام أزمة تربية رقمية عالمية: جيل يعيش على الشاشات، وأهل يبحثون عن الحدّ الأدنى من السيطرة لحماية أطفالهم دون عزلهم عن عالم صُمِّم لابتلاع انتباههم.

وتمتدّ الصورة أعمق مع تقرير Pew Research Center (11آذار 2024) بعنوان How Teens and Parents Approach Screen Time الذي قدّم أكثر الخرائط دقة للعلاقة بين الأسرة والشاشة. فبينما يصرّح 38% المراهقين أنهم يقضون وقتًا على هواتفهم، تؤكد الأغلبية أن الوقت "مناسب"، وكأن الاعتياد معيار للطبيعي. ويكشف التقرير أن الهاتف ليس جهازًا، بل جزء من جهازهم النفسي: يشعر 74% منهم بالسلام عندما يُبعدون هواتفهم، 44% بالقلق، و39% بالوحدة. إنها مفارقة طفل يتنفس الشاشة لكنه يتوتر حين يُفصل عنها، كأنه كائن بذاكرتين: ذاكرة داخل الهاتف وذاكرة خارجه. ويُظهر التقرير أن 70% من المراهقين يرون فوائد الهاتف أكبر من أضراره، لكنه لا يعزز المهارات الاجتماعية بشكل إلا بشكل محدود. أما الأهل، فيجدون أنفسهم في معركة خاسرة: 76% يعتبرون ضبط وقت الشاشة أولوية، لكن نصفهم لا يضعون حدود حقيقية، و40% يعترفون أنهم يجدون الأمر "صعبًا"، بينما يتشتّت الكثير منهم أثناء الحديث مع أبنائهم. كأن التقرير يقول إن معركة الشاشات ليست بين جيلين، بل بين عائلتين: العائلة الواقعية… والعائلة الرقمية التي تشكّلت داخل بيت.

تأتي الدراسة الطبية المنشورة في JAMA Network Open (12 تموز 2024) بعنوان:

Screen Media Use and Mental Health of Children and Adolescents لتضع علاقة الشاشات بصحة الصغار النفسية تحت المجهر العلمي، بعيدًا عن الانطباعات أو المبالغات. هذه الدراسة، المبنية على تجربة سريرية عشوائية معروفة باسم Screen Trial، اختبرت سؤالًا عميقًا: ماذا يحدث لو خفّضت العائلات وقت الشاشات الترفيهية لدى أطفالها لمدة أسبوعين؟ النتيجة كانت حاسمة: انخفاض في الأعراض الداخلية مثل الحزن، والقلق، والانسحاب الاجتماعي، إلى جانب تراجع في المشكلات النفسية والسلوكية، وارتفاع في السلوك الاجتماعي لدى الأطفال والمراهقين. كما أظهر الباحثون أن الأطفال الذين كانوا يقضون أطول وقت أمام الشاشات قبل التدخل هم الأكثر استفادة بعد خفض الاستخدام، في إشارة إلى أن تراكم الضرر قابل للعكس وأن "إعادة ضبط" قصيرة يمكن أن تغيّر مسار الطفل النفسي. وترجع الدراسة هذا التحسّن إلى مزيج من العوامل: زيادة الوقت الوجاهي مع الأسرة، تراجع التعرّض للمحتوى المثير للقلق، تحسّن النوم، ودفء العلاقة العائلية، فيما سجّل الأهل أنفسهم انخفاضًا في التوتر وتحسّنًا في المزاج. ليست هذه مجرّد دراسة إضافية، بل شهادة علمية تقول إن تعديل استخدام الشاشات لا يغيّر المزاج فحسب، بل يعيد ضبط الجهاز العصبي والسلوكي للأسرة بأكملها.

في ضوء هذا المشهد المتشابك، يتبيّن أن أزمة الشاشات تكشف أننا أمام تحوّل بنيوي يعيد تعريف الطفولة، والأسرة، والتعليم، والصحة النفسية، والإيقاع الاجتماعي. الوعي بهذه الأزمة يفتح الباب لأسئلة لا يمكن تجاهلها: هل نملك القدرة على حماية أطفال يعيشون داخل منصّات أقوى من المدرسة والأسرة؟ هل نحن بحاجة إلى تشريعات أم إلى ثورة تربوية؟ وماذا لو لم يكن السؤال: كم ساعة يقضيها الطفل أمام الشاشة، بل: كم بقي من طفولته خارجها؟ هل يمكن لطفولة تُربّيها الشاشات أن تنضج بلا ندوب؟ هل يصبح الجيل القادم قادرًا على بناء علاقات حقيقية في عالم صُمِّم ليكافئ العزلة الرقمية؟ هل يستطيع الأهل استعادة دورهم، أم أن السيطرة انتقلت إلى الخوارزميات؟ هل يمكن إصلاح الطفولة الرقمية أم أننا متأخرون أكثر مما نعتقد؟ وهل سنكتب يومًا: لقد استعدنا أبناءنا، أم سيكتب التاريخ أننا كنّا الجيل الذي ترك الطفولة تسقط من بين يديه دون أن ينتبه؟ هذا هو السؤال الذي لن تُجيب عنه الشاشات… بل نحن. 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد