ربى أبو فاضل (صحيفة الديار)
حين يغلق باب الأمومة والأبوة في وجه بعض الأسر، تتحول الرغبة في احتضان طفل، إلى حاجة ملحة تدفعهم أحياناً إلى سلوك طرق غير شرعية. هذه الحاجة الإنسانية كانت دائماً أرضاً خصبة تستغلها شبكات الاتّجار بالأطفال، وهي ظاهرة عرفها لبنان منذ سنوات الحرب المشؤومة عام 1975، قبل أن تعود اليوم مجددا بفعل الانهيار الاقتصادي والمؤسساتي، الذي فتح ثُغرًا واسعة أمام تجدد هذه الممارسات وتوسعها.
في المقابل، دفعت الأزمات المتلاحقة كثيرين إلى التخلي عن أطفالهم تحت ضغط الظروف المادية والاجتماعية، وما كشفته الحادثة الأخيرة التي هزت الرأي العام، يؤكد حجم هذه الجريمة وتشعبها. فقد أعلنت المديرية العامة لأمن الدولة ـ قسم الإعلام والتوجيه والعلاقات العامة في بيان، أنه "في إطار المتابعة الحثيثة لملاحقة شبكات الاتّجار بالبشر، وبعد توافر معلومات حول تورط طبيب مع عصابة منظمة، تعمل على بيع ونقل الأطفال حديثي الولادة بطرق غير قانونية، قامت دورية من مديرية الجنوب الإقليمية بتوقيف الطبيب جوزيف فياض".
وكشفت المديرية أنه "في التحقيق تبين ان الطبيب المذكور عمد إلى تسهيل نشاط العصابة، عبر تزوير وثائق الولادة وبيانات القيد، لإخفاء هويّات المواليد وتسجيلهم بصورة مخالفة للقانون، كما تبين أن الطبيب مطلوب ايضاً بموجب مذكرة توقيف غيابية صادرة عن قاضي التحقيق في جبل لبنان"، وذكرت أنه "قد أجري المقتضى القانوني حيال الموقوف، بناءً على إشارة القضاء المختص".
وأشارت التحقيقات الأولية إلى أن الطبيب كان يتقاضى ما يصل إلى 5000 دولار أميركي، مقابل تأمين أوراق مزورة تنسب الطفل لغير والدته ووالده الطبيعيين، وهي معطيات لا تزال قيد التدقيق من جانب الأجهزة المختصة.
غياب الآليات الرقابية
وبحسب مصادر أمنية، فإن الطبيب جوزيف فياض من مواليد الرميلة ـ الشوف ومقيم في الهلالية ـ صيدا، كان يشغل دورا طبيا وإداريا في ثلاثة مستشفيات بارزة في صيدا، قبل أن تتراجع علاقته مع بعضها خلال العام الماضي.
هذا المسار المهني رغم تعقيداته، لم ينعكس داخل نقابة الأطباء، إذ يؤكد نقيب الأطباء إلياس شلالة أن شطب أي طبيب من الجدول، يعود حصراً إلى صلاحية وزارة الصحة، وأن تعليق مزاولته للمهنة يستوجب حكماً قضائياً لم يصدر بعد، مشيرا إلى أن سجل الطبيب النقابي لا يتضمن أي شكوى.
ورغم إقرار لبنان لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل (1989) وبروتوكول منع الاتجار بالأشخاص، فإن تطبيق هذه الاتفاقيات لا يزال ضعيفا، بسبب غياب آليات رقابية وطنية فعالة، وفق تقارير الجهات القانونية والحقوقية الرسمية.
شبكات بيع الأطفال تعمل وفق منظومة متشابكة
ما جرى مع الطبيب فياض ليس حالة فردية، فشبكات بيع الأطفال في لبنان تعمل وفق منظومة متشابكة، بحسب مصدر متابع لقضايا الاتجار بالبشر والأطفال، حيث اشار إلى أن "العملية تبدأ باستهداف نساء في أوضاع هشة، عاملات منزليات بلا حماية، أمهات قاصرات، نساء يخشين الفضيحة، أو يعجزن عن تحمل كلفة الولادة وتقديم مساعدة لهن، مقابل التخلي عن الطفل. وفي المستشفى تسجل الولادة بشكل غير دقيق، حيث يغفل اسم الأم الحقيقي، وتدرج بيانات أم بديلة أو عائلة (مستلمة) كأنها بيولوجية، مع تجاهل التبليغ عن الحالات المشكوك فيها، وأحيانا يسلم المولود مباشرة لوسيط يتولى نقله إلى العائلة الشارية.
ويقول المصدر ان العملية تستكمل في الدوائر الرسمية، عبر استخدام أختام غير قانونية، إدراج الولادات في سجلات غير مدققة، وكتابة بيانات قيد استنادا إلى وثائق مزورة، بحيث يدرج الطفل مباشرة في خانة عائلة جديدة، من دون أي مسار تبن قانوني".
ماذا يقول القانون؟
من جهته، يؤكد مصدر قانوني فضل عدم الكشف عن اسمه أن "الاتجار بالأشخاص جريمة خطرة، عرفت بأنها اجتذاب شخص أو نقله أو احتجازه، أو إيجاد مأوى له بالخداع أو التهديد أو القوة، أو عبر إعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا للتأثير في من له سلطة على الشخص".
ويشير إلى أن "بيع الأطفال وتزوير هوياتهم يندرج تحت قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص رقم 164/2011، الذي تشدد المادة 586 (7) منه العقوبة إلى الأشغال الشاقة عشر سنوات إذا كان الضحية طفلًا، أو إذا استخدم التزوير من قبل طبيب أو موظف عام". ويضيف: "كما يعاقب قانون العقوبات تزوير وثائق الولادة (المادة 459) بالأشغال الشاقة من 5 إلى 15 سنة، واستعمال مستندات رسمية مزورة (المادة 466) بالحبس من 3 إلى 10 سنوات، ما يعكس خطورة الجريمة وتعدد مستوياتها القانونية".
وفي سياق متصل، نظمت وزارة العدل في 27 تشرين الثاني، بالتعاون مع مؤسسة "فرانس إكسبرتيز"، المؤتمر الوطني لمكافحة الاتجار بالأشخاص، وأكد وزير العدل عادل نصار أن لبنان خطا خطوة مهمة عبر إقرار القانون رقم 164/2011، مشددا على "ضرورة تعزيز التطبيق الصارم للقانون"، واعتبر "أن إطلاق إجراءات التشغيل الموحدة (SOP) لتحديد ضحايا الاتجار وحمايتهم، يمثل خطوة أساسية نحو تطبيق أكثر فاعلية للقانون وتحسين آليات الرعاية".
آثار نفسية واجتماعية على الأطفال
ورغم وضوح القوانين اللبنانية وصرامة العقوبات، فإن خطورة الجريمة تتجاوز البعد القانوني لتترك آثارا نفسية واجتماعية عميقة في الأطفال وذويهم، إذ تشير اختصاصية في علم النفس العيادي والاجتماعي، فضلت عدم الكشف عن اسمها، إلى أن "الأطفال الذين ينتزعون من أمهاتهم في الأيام الأولى، غالبا ما يظهرون لاحقا اضطرابات في التعلق، قلقا مزمنا، وصعوبات في الثقة بالآخرين"، وتضيف: "الطفل الذي يباع أو تزوّر هويته يختبر لاحقا ما يسمى صدمة الهوية عند اكتشاف الحقيقة، وهي صدمة قد توازي صدمات الفقد أو الانفصال".
أما عن الأمهات اللواتي يبعن أو يتخلين عن أطفالهن، فتوضح الاختصاصية "أنهن غالبا ما يعانين اضطرابات اكتئابية حادة، ولوم الذات، ونوبات هلع، خاصة إذا حصل التخلي في ظروف قسرية أو استغلالية، وكثيرات يجبرن على الصمت بسبب التهديد أو الخوف من الوصمة"، وختمت "حين تتحول الأمومة إلى سلعة والولادة إلى معاملة مزورة، نكون أمام مجتمع يفقد إحدى ركائز الأمان، ما يهدد الثقة بالمؤسسات الصحية والقانونية معا".
فضيحة "قرية المحبة والسلام"
وكان عام 2023 قد شهد فضيحة "قرية المحبة والسلام"، بعد انكشاف تورط الجمعية في استغلال أطفال تحت رعايتها، وبيع رضع عبر تزوير المستندات، ما أدى إلى إقفالها قضائيا وإحالة المسؤولين عنها إلى التحقيق.
وفي هذا السياق، شددت جمعية الدفاع عن حقوق الطفل في لبنان على أن ما جرى يجب أن يشكل جرس إنذار للجهات الرسمية، مؤكدة أنه "من الضروري أن تمارس الوزارة المعنية دورها الرقابي، وأن تتشدد في تطبيق معايير إنشاء مراكز استقبال الأطفال وسياسة حماية الطفل في كل مركز داخلي".
بدوره شدد الأب مجدي العلاوي، خادم جمعية "سعادة السماء"، على أنه "يجب على أي شخص يكتشف عمليات بيع الأطفال أن يبلغ القوى الأمنية فورا للتحرك، إذ لا يمكن معرفة خلفية الأهل الذين يشترون هؤلاء الأطفال أو البيئة التي سينشؤون فيها، ما يجعل كل حالة عرضة للخطر".
ويأتي هذا التصريح بعد أن شهد عام 2023 محاولة استغلال صور وأسماء الأطفال التابعين للجمعية، على صفحات مزورة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث عمد بعض الأشخاص إلى نشر صور الرضع وتسعيرهم باسم الأب والعائلة، الأمر الذي دفع علاوي إلى توثيق الأمر عبر تسجيلات صوتية وإيصالات وإبلاغ السلطات المعنية.
جريمة جماعية
تجارة الأطفال في لبنان ليست ظاهرة جديدة، لكنها اتخذت في السنوات الأخيرة أبعادا أكثر خطورة، وباتت جريمة جماعية تتغذى من انهيار مؤسسات الدولة وفشل آليات الحماية.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم : هل ستبقى هذه السوق السوداء مستمرة، تاركة آثارا عميقة في الأجيال القادمة؟ أم أن الضمير الجماعي سيصحو يوما لإنقاذ الأطفال من ضياع محتوم؟
يشار إلى أنه ليس هناك حتى اليوم أرقام رسمية أو دراسة وطنية تنشر بيانات عن عدد الأطفال المباعين عبر تزوير الولادة في لبنان، لأن الجريمة مخفية بطبيعتها.