ندى أيوب (صحيفة الأخبار)
تزامناً مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية بشنّ ضربة عسكرية على لبنان، علمت «الأخبار» أنّ مكتب الأمم المتحدة في لبنان طلب من الهيئات الأممية العاملة في المجال الإنساني، ومن المنظمات الدولية الشريكة، تفعيل خطط الطوارئ تحسّباً لسيناريو حربٍ محتملة تقدّر الأمم المتحدة أنها قد تؤدي إلى نزوح نحو مليون لبناني من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.
ويستند الطلب إلى تقرير صادر عن الفريق المختص في الأمم المتحدة بجمع المعلومات الأمنية - الاستخباراتية وتحليلها. ووفق المعطيات، خلص التقرير الذي وُضع على طاولة الهيئات والمنظمات كوثيقة مرجعية إلى أنّ لبنان قد يشهد «ضربات جوية مكثّفة تهدف إلى إحداث أكبر موجة تهجير ممكنة من الجنوب والبقاع والضاحية، مع احتمال تنفيذ عمليات اغتيال، وتصعيد قد يشمل قصف مناطق لم تُستهدف سابقاً، وقد يطاول مرافق تابعة للدولة اللبنانية، إضافة إلى توقعات بتنفيذ هجوم بري قد لا يقتصر على الجنوب بل يشمل البقاع أيضاً».
هذا التقدير تبلّغته المنظمات خلال تشرين الثاني الفائت. وبدورها، أبلغت السفارات الكبرى في بيروت، ومنها الأميركية والبريطانية والفرنسية وسواها، المنظمات الدولية التي تُشارك في تمويلها بضرورة الاستعداد لخطط وقاية عاجلة، مستخدمةً تعبير «ضربة قاسية ستوجَّه إلى لبنان». وأكدت هذه السفارات أمام المعنيين في المنظمات أن «الدولة اللبنانية على علمٍ بالأمر، وقد وصلت الرسالة إلى الرؤساء والمؤسسة العسكرية ووزارة الدفاع».
وعلى هذا الأساس، باشرت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، منذ أكثر من أسبوعين، تحديث خططها الداخلية وتحديد المخاطر التي قد تعيق تنفيذ برامج الإغاثة، وبدأت العمل على تشكيل فريق مُدرَّب على الاستجابة السريعة. وبحسب المصادر، فإن «بعض المنظمات الإنسانية الكبرى شرعت فعلياً بتجهيز مخزون طوارئ («ستوك») من المواد واللوازم التي تُوزع عادة في الحروب، كالمواد الغذائية ومستلزمات النظافة الشخصية ومواد التنظيف والبطانيات والفرش، إضافة إلى كميات من الفيول. كما بدأت عمليات دعم للمستشفيات عبر تزويدها بالأدوية واللوازم الطبية، ولا سيما تلك التي تقع على عاتقها الاستجابة الأولية السريعة كمستشفيات صور وصيدا».
يأتي ذلك على أعتاب إجراءات لإعادة هيكلة عالمية لنظام المساعدة الإنسانية، في ظلّ النقص المتزايد في التمويل الأوروبي والأميركي للمنظمات. ولهذه الغاية، تبلّغت هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية توجيهاً صريحاً من مكتب المنسّق الأممي في لبنان يقضي بتقليص ميزانياتها لعام 2026 بنسبة 40%. ما يعني أنّ اندلاع أي حرب - ولو من باب الاحتمال - سيشكّل تحدّياً كبيراً لقدرة هذه المنظمات على تقديم مساهمة فاعلة، ولن يكون في مقدور السلطة اللبنانية الاعتماد عليها كلياً كما فعلت خلال عدوان 2024.
مع ذلك، لم تصل حكومة الرئيس نواف سلام إلى هذا المستوى من البحث. بل الأدقّ أنها لم تبحث شيئاً حتى الآن. فرئيس الحكومة لا يرغب في خلق حالة هلع بين اللبنانيين، ولا يريد أن تبدو حكومته كمن يستعدّ لحرب وشيكة، واختار اتباع سياسة الإنكار، على قاعدة أنّ تجاهل الأمر قد يجعله غير موجود! وكأنّ العدو ينتظر جهوزية الحكومة ليشنّ حربه، أو أنّ اللبنانيين ينتظرون إشارات رسمية ليشعروا بالخوف.
الواقع أن الناس سبقوا حكومتهم؛ الخطط البديلة لاحتمال اندلاع الحرب باتت جزءاً من يومياتهم، من البحث عن منازل للإيجار في المناطق الآمنة، إلى أشكال مختلفة من الاستعداد والتحسّب. وما يزيد من قلقهم هو هذا الغياب التام للدولة، إذ لا أحد من المسؤولين يقدّم إشارة على وجود من يسعى إلى تحمّل المسؤولية، أو حتى محاولة لمواكبة المحظور إن وقع.
ويبدو التخبّط واضحاً على مستوى رئاسة الحكومة، إذ يتناقض كلام سلام مع ما تؤكده المنظمات الدولية. ففي حين أكد في مقابلة صحافية أنّ «لدى الحكومة خطة جاهزة لمواكبة الحرب المحتملة»، أفادت عدة هيئات أممية ومنظمات دولية أنها سمعت في اجتماعاتها مع ممثلين عن وزارات الشؤون الاجتماعية والطاقة والمياه والتربية أنّ «التحضير للحرب ليس ضمن اختصاص هذه الوزارات، وأنهم لم يتبلّغوا أي طلب حكومي رسمي للمباشرة بالإجراءات».
كذلك أفادت وحدة إدارة الكوارث في رئاسة الحكومة، ردّاً على الاستفسارات، أنّ العمل «يتم عبر اللجنة الوطنية لإدارة الأزمات والكوارث التي يرأسها الأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع، اللواء محمد مصطفى، وتضمّ القوى الأمنية والعسكرية ومعظم الوزارات، وترفدها وحدة إدارة الكوارث وغرفة عمليات مركزية في السراي الحكومي. وأضافت أن التركيز عادة يكون على مسألة النزوح ومراكز الإيواء، ويتم التنسيق مع وزارات الشؤون، الداخلية والتربية».
وللتوضيح، فإن لجنة إدارة الأزمات ووحدة إدارة الكوارث إطاران موجودان منذ سنوات، وهذه الإجابة تمثل قراءة حرفية للنصوص المكتوبة والمبادئ التوجيهية المعتمدة في الأزمات. والمشكلة أن سلام، في حديثه عن وجود خطة لدى الحكومة، كان يقصد هذه المبادئ العامة الموضوعة على الورق، دون أن يكون هناك أي طلب من جانبه أو من أي وزير لتفعيلها أو تعديلها أو تنظيم طريقة تطبيقها بما يتناسب مع الأوضاع الراهنة والسيناريوهات المحتملة.
بل تشير المعطيات إلى أنّ لجنة الطوارئ الحكومية التي واكبت عدوان 2024 برئاسة الوزير السابق ناصر ياسين، أعدّت تقريراً عن التجربة تضمّن خلاصات وتوصيات لتقييم مكامن القوة والضعف، وسلّمته إلى رئاسة الحكومة التي لم تتخذ أي إجراء فعلي لاستخلاص العبر. وحتى المعنيون في هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية يكررون أنهم «لا يعرفون مع من عليهم التواصل في الحكومة، وأن التنسيق قبيل اندلاع عدوان أيلول الماضي كان أفضل بكثير من الوضع الحالي»، مستخلصين في بعض الأحيان أنّ «أحداً لا يريد تحمّل المسؤولية في هذه الحكومة».
في ظروف مماثلة لظروف لبنان الأمنية، حيث لم تتوقف الحرب منذ سنوات، حتى وإن كان بشكل غير تقليدي، يُفترض بالسلطة التنفيذية أن تضع جميع الاحتمالات على الطاولة، وتتعامل معها وفق بديهيات منطق الاستجابة للطوارئ. أما اليوم، فمع هذه الحكومة وكل وزرائها، تطرح أسئلة مفتوحة يحق للرأي العام اللبناني مساءلتهم بشأنها:
ما الذي يمنع إجراء تمرين مسبق لجميع الوحدات المعنية بالإغاثة، بدءاً من الهيئة العليا للإغاثة ووحدة إدارة الكوارث، مروراً بالبلديات واتحاداتها، وغرف إدارة الكوارث في المناطق، والقائمقامين وموظفي الوزارات والجمعيات والمنظمات؟ ولماذا لا تطلب الحكومة من الهيئة العليا للإغاثة شراء وتخزين 100 ألف حصة غذائية وفرش وبطانيات لاستخدامها فوراً في حال اندلاع الحرب؟ ولماذا لا تقوم وزارة التربية بجرد المدارس القابلة للاستخدام وجدولتها وفق الأولويات؟ ولماذا لا تبادر وزارة الشؤون إلى جرد مستودعاتها واستدعاء الجمعيات للمساعدة؟
وهل سُئِل وزير المالية عن مدى قدرة الدولة على الصرف لدعم إيواء الناس من حساب الخزينة في مصرف لبنان، وما هو التمويل المتاح لذلك؟ وأين وزارة الطاقة من التنسيق مع مستوردي النفط؟ ولماذا لا تنسق وزارة الاقتصاد مع مستوردي المواد الغذائية لوضع خطط طوارئ لتأمين البضائع ومنع الاحتكار؟ وهل تحققت وزارة الأشغال من جاهزية آلياتها لفتح الطرقات في حال تعرّضت لاستهداف؟
وهل تم جمع القوى الأمنية في وزارة الداخلية لتنسيق مهماتها على الطرقات، بدلاً من ترك الناس وحيدين لساعات طويلة كما حصل يوم النزوح الكبير، أو في الضاحية الجنوبية ليلة عيد الأضحى بعد أن وجه العدو حوالى 10 إنذارات في وقت واحد؟ علماً أنّ الدولة لم تتجاوب مع اتصالات اتحاد بلديات الضاحية لتسهيل فتح الطرقات أو توجيه الناس إلى أماكن آمنة، كما لم يُستحدث مركز نزوح رغم أنّ أكثر من 100 عائلة باتت بلا مأوى. وأخيراً، هل ستثبت وحدة إدارة الكوارث، الممولة منذ نحو 20 سنة من الـUNDP، جدارتها هذه المرة؟ وهل تمتلك لائحة محدثة بأسماء مراكز الإيواء المحتملة للنزوح؟
بالمقارنة، وخلال الجلسة الأولى لحكومة نجيب ميقاتي بعد بدء حرب الإسناد في تشرين الأول 2023، اقترح وزير البيئة السابق ناصر ياسين وضع خطة طوارئ تحسباً لاندلاع حرب. وخلال شهر واحد فقط، انطلق العمل على تعديل الخطط القائمة ودمجها بما يتناسب مع التمويل المتاح والقدرات العملية، لتُقرّ في الحكومة، وتُعرض على اللجان المشتركة في مجلس النواب. كما صدر قرار حكومي بتشكيل لجنة طوارئ مصغرة برئاسة ياسين للإشراف والتنسيق بين لجنة إدارة الأزمات ووحدة إدارة الكوارث، للحدّ من التشتت وتحسين سرعة الاستجابة.
وللمرة الأولى، بادرت الدولة إلى دعوة الهيئات الأممية والمنظمات الدولية إلى اجتماعات دورية، مطالبة إياها بإيضاحات حول إمكانية تقديم الدعم وحدوده. كما طلبت من وزارة التربية تزويدها بلوائح المدارس الجاهزة لاستقبال نازحين وتلك التي تحتاج إلى صيانة سريعة، وحددت وزارة الصحة احتياجاتها واحتياجات المستشفيات، وأنشأت غرفة طوارئ في الوزارة. وبدأ التنسيق مع مستوردي المواد الغذائية والنفط.