اوراق خاصة

مصر بين "كامب ديفيد" وغزة.. كيف فتح التفريط الباب لمخططات "إسرائيل"؟

post-img

معتز منصور/ باحث سياسي

من يقرأ المشهد، اليوم، بعين قومية صافية يرى أن ما يحدث في غزة ليس انحرافًا طارئًا، بل نتيجة مباشرة لمسار طويل من التفريط؛ بدأ منذ اتفاقية "كامب ديفيد"، وتعمق مع مرور العقود حتى وصل إلى مرحلة أصبح فيها العدو يقرر وحده شكل الخرائط وحدود الحركة العربية.

إذ إن "إسرائيل" التي شنت حربها على غزة تحت غطاء دولي كثيف؛ لم تكن تتحرك من دون خطط. هي وجدت في تراجع الدور العربي فرصة ذهبية لدفع مشروع التهجير مرة جديدة إلى الواجهة، تماما كما حدث في كل مفصل تاريخي ضعفت فيه القوة العربية، وتراجعت فيه مصر عن موقعها الطبيعي.

ما يفضح النوايا الصهيونية أن بعض وسائل الاعلام الإسرائيلية، مثل القناة 12، تحدثت بوضوح عن ترتيبات يتم فيها فتح المعبر باتجاه سيناء لعبور الفلسطينيين، لا العكس. هذا الطرح ينسف الرواية المعتادة التي تزعم أن مصر هي من تضغط لإدخال المساعدات بينما ترفض "إسرائيل". المسألة لم تعد إنسانية؛ بل سياسية بامتياز: "إسرائيل" تريد خلق انطباع أن التهجير خيار مفتوح ومتاح، وسيناء يمكن أن تكون حلاً دائمًا أو مؤقتا، والمجال العربي الرسمي صامت أو عاجز عن كبح هذه المحاولات.

خطورة اللحظة ليست في أن "إسرائيل" تتحرك، بل في أن مصر، وهي الدولة التي كانت يومًا محور الصراع العربي- الإسرائيلي وقلب الأمة، لم تعد تمارس دورها الطبيعي في صد المخططات. منذ توقيع كامب ديفيد، تم تفريغ الدور المصري من مضمونه القومي وتحويله الى وظيفة أمنية تضبط الحدود وتحترم السقف الذي ترسمه واشنطن و"تل أبيب".. هكذا تحولت مصر من دولة مركزية في معادلة الصراع إلى شريك صامت أو ملتزم بحدود اللعبة، حتى حين تتجاوز "إسرائيل" كل الخطوط الحمراء.

كان المشهد أكثر فجاجة؛ حين ظهرت التصريحات التي تطالب الفلسطينيين بالابتعاد عن الحدود، وكأنّ القضية مجرد مسألة ضبط أمني، لا امتداد لمعركة وجود تخص كل عربي قبل أن تخص أهل غزة. هذا الخطاب يعكس ذهنية كامب ديفيد، لا ذهنية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. هو يعكس رؤية تعدّ "إسرائيل" شريكًا في الترتيبات، لا عدوًا يحتل أرضًا ويحاصر شعبًا ويخطط لاقتلاع الآخرين.

القومية العربية، في جوهرها، لم تكن يومًا خطابًا رومانسيًا، بل منظومة حماية. ودور مصر كان الركيزة التي تمنح هذه المنظومة معناها وقوتها. حين تخرج مصر من موقع القيادة، ينهار التوازن كله. وهكذا رأينا كيف أصبحت الساحة العربية، اليوم، مفتوحة أمام كل مشروع إسرائيلي، من التطبيع إلى تحويل قطاع غزة إلى منطقة يمكن إعادة رسم ديموغرافيتها من دون أدنى حساب. ولولا هذا الفراغ لما تجرأت "إسرائيل" على مناقشة التهجير علنَا؛ وكأنه خيار سياسي مشروع.

الأزمة ليست في أن "إسرائيل" تبالغ في قوتها، بل في أن مصر تتراجع عن مسؤوليتها. الدفاع عن سيناء وفلسطين والأمن القومي العربي ليس خيارا ثانويًا، هو جوهر الدولة المصرية نفسها. وكل خطوة تبتعد فيها مصر عن دورها هذا تمنح "إسرائيل" مساحة إضافية للتقدم. ما يجري، اليوم، نتيجة طبيعية لسياسة الخضوع التدريجي التي فرضتها تفاهمات السلام، حتى بات يُنظر إلى دور القاهرة التاريخي عبئًا لا ضرورة.

على الرغم من أن الظروف الاقتصادية والسياسية صعبة، إلا أن مصر ما تزال تملك القدرة على إعادة تعريف موقعها. ليس المطلوب إعلان حرب، بل كسر منطق كامب ديفيد الذي جعل من السيادة المصرية ملفًا خاضعًا للحسابات الإسرائيلية. إذ إن القوة المصرية الحقيقية كانت دائما نابعة من دورها العربي، لا من اتفاقات فرضت عليها في لحظة اختلال ميزان القوى. الدليل أن كل تقدم إسرائيلي، منذ كامب ديفيد، جاء على حساب الأمن القومي العربي والمصري معًا، من الاستيطان إلى حصار غزة إلى تحويل سيناء هامشًا قابلًا للتفاوض.

ما هو مطلوب، اليوم، موقف راديكالي بالمعنى القومي: إعلان أن مصر لا يمكن أن تكون جزءًا من أي هندسة إقليمية تصب في مصلحة "إسرائيل" وإعادة تموضع واضح يعيد للقاهرة حقها ودورها ومكانها في قلب الصراع. هذا الدور ليس ترفًا سياسيًا، هو ضرورة استراتيجية؛ لأن العدو أثبت عبر كل محطات الصراع عدم تراجعه، إلا أمام قوة صلبة تفرض عليه الحساب.

‘ذا بقيت مصر على هذا المسار، مسار الاكتفاء بالتحذير اللفظي والتشبث باتفاقات لم تحم فلسطين ولا مصر، فإنّ المشروع الإسرائيلي سيتقدم بلا حاجز حقيقي. أما إذا كسرت القاهرة السقف الذي صنعته كامب ديفيد، واستعادت هويتها القومية العربية، فستعود معادلة الردع إلى مكانها الطبيعي، وستتغير قواعد اللعبة كلها.

هذه اللحظة ليست مجرد اختبار سياسي، هي لحظة تحدد مستقبل الأمة كلها.. فإما عودة مصر إلى دورها التاريخي، أو توسّع إسرائيلي حتى آخر حدود تستطيع بلوغها، من دون مقاومة تذكر.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد