علي سفر/ العربي الجديد
بعد سقوط نظام بشار الأسد ووصول السلطة الجديدة إلى الحكم، ظنّ كثيرون أن الثقافة السورية ستشهد انفراجًا سريعًا، باعتبارها أحد أكثر المجالات خنقًا خلال العقود السابقة. غير أنّ الأشهر التالية لتحرير البلاد كشفت حقيقة مختلفة، حيث يعاني المشهد الثقافي من فراغ كبير، أو تحكمه مساحة ضبابية تختلط فيها الأدوار بين الأفراد، وتوجهات إدارة الأمانة العامة للشؤون السياسية التي تتحكم من الخلف بعمل المؤسسات، أكثر مما تضبطها رؤية ثقافية واضحة وشاملة. وما ظهر إلى الآن يمكن تسميته "إشارات متفرّقة" لا تجمعها استراتيجية، ولا تنطلق من فهم عميق لتعدد التيارات الثقافية السورية التي راكمت تجارب غنية خلال القرن العشرين، وسنوات حكم الأسد الابن وفترة الثورة السورية.
انطلقت موجة التساؤلات الأولى حين ظهر الرئيس أحمد الشرع في لقاءات مع مجموعات من الشعراء بعد التحرير، كان معظمهم من شعراء القصيدة العمودية، وغالبيتهم غير معروفين على المستوى الوطني، بل ينتمون إلى فضاءات جغرافية محدودة في الشمال المحرر. وليس ثمة مشكلة في أن يكون الرئيس صاحب ذائقة كلاسيكية، فهذا شأن شخصي، لكن المشكلة ظهرت حين بدأ هذا الميل يبدو كأنه المعيار الوحيد الذي يطل عبره الخطاب الثقافي الرسمي. فالثقافة السورية لم تُختزل يومًا في قصيدة عمودية أو تيار تقليدي، بل طالما تداخلت فيها تيارات الحداثة وما بعد الحداثة، وتيارات التجريب المسرحي، والمدارس السينمائية المتنوعة، وحركات الفن التشكيلي، وحقول الموسيقى، والمسرح، والرقص.
الإشكال الحقيقي يأتي من جهة أنّ الذائقة حين تتحول إلى مؤشر سياسي تصبح قادرة على تضييق الأفق، وفتح الباب أمام تمثيل ثقافي محدود لا يعكس واقع البلاد ولا تعدديتها، بل يعكس مزاج السلطة أكثر مما يعكس مزاج المجتمع المتنوع. هذا الغموض انعكس بوضوح على التعيينات التي طالت المؤسسات الثقافية، فقد جرى تعيين محمد ياسين صالح وزيرًا للثقافة، وهو معروف أنه يكتب القصيدة العمودية، ولم يكن معروفًا بشكل واسع، لكنه حاز فورًا قبولًا بعد أن خاطب السوريين في حفل إعلان الحكومة الجديدة عبر جملة شعرية حرّكت عندهم إحساسهم بالنصر ضد السلطة البائدة، حين قال "دمشق لنا إلى يوم القيامة"! وقد اختار الوزير لإدارة مديريات الثقافة الشاعر أنس الدغيم، وهو كلاسيكي المزاج والقول أيضًا.
جاءت التعيينات الأخرى في القطاعات الأخرى مبنية على الموقف الثوري كما هو متوقع فعيّن جهاد عبده مديرًا للمؤسسة العامة للسينما، وحلّ الممثل والمخرج غطفان غنوم في المعهد العالي للفنون المسرحية، وأخيرًا عُين نوار بلبل مديرًا للمسارح والموسيقى. غير أن مشكلة هذه الأسماء، ورغم تباين مواقعها وخلفياتها، أنها لم تُقدّم إلى الآن أي برنامج عمل يشير إلى اتجاه عام: هل تريد السلطة سينما مستقلة؟ أم سينما ترويجية؟ هل تفضل مسرحًا حرًا؟ أم مسرحًا محافظًا؟ هل تتبنى الموسيقى الكلاسيكية؟ أم تفتح الباب لمشاريع الشباب؟ كل شيء بقي ضمن إطار احتفالي أو إجراءات شكلية، من دون إعلان سياسة ثقافية وطنية، وهذا ما عزّز القلق من أن المشهد الثقافي يسير بلا بوصلة، وتحت تأثير قرارات فردية لا جماعية.
التداخل بين رؤية إدارة الأمانة العامة للشؤون السياسية وبين مؤسسات المجتمع المدني ولا سيما النقابات ظهر سريعًا، حيث عُين الممثل مازن الناطور نقيبًا للفنانين، والدكتور محمد صبحي السيد يحيى رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين. وقدمت مجموعة من الروابط والجمعيات بالاتفاق مع عدد من الكتاب المستقلين مبادرة لتسيير أعمال اتحاد الكتاب ضمن صيغة تشاركية، لكن ما لبثت هذه التجربة أن اصطدمت بتعيين أحمد جاسم الحسين رئيسًا جديدًا للاتحاد خلفًا لمحمد طه العثمان، وظهر أنه وعلى خلفية تعيينه من إدارة الشؤون السياسية يريد الإمساك بكامل المشهد، من خلال تعيين مجلس تنفيذي شبه جديد، يتفق مع توجهاته.
واحدة من أبرز الحوادث التي كشفت أزمة الرؤية حدثت حين قررت مديريات داخل وزارة التربية إزالة أسماء عدد من المثقفين عن مدارس تحمل أسماءهم منذ عشرات السنين. فبدا القرار أشبه بمحاولة "تطهير ثقافي" غير مدروس، قائم على جهل بالتاريخ الثقافي السوري وليس على تقييم مهني، الأمر الذي اضطر وزير الثقافة إلى التدخل والطلب من وزير التربية إعادة النظر في القرار لما فيه من إساءة واضحة للثقافة السورية، فاستجاب وشكّل لجنة لدراسة التسميات الجديدة.
قد يكون ملف الآثار أحد أكثر المواضيع حساسية، وأكثرها إلحاحًا بعد الحرب. فبعض المتاحف أصابها ضرر كبير، ومئات القطع الأثرية نُهبت، ومواقع أثرية لا تقدّر بثمن أصابها الدمار. ورغم ذلك، لم تُطرح حتى الآن خطة وطنية لإدارة الملف، فلم يقدَّم برنامج واضح لاستعادة الآثار المسروقة، ولم توضع خطط ترميم واسعة على طاولة أصحاب القرار، ولم تتوفر رؤية لمستقبل المتاحف، وحدثت سرقة في المتحف الوطني في دمشق، وحتى اللحظة لم تقدم الوزارة رواية رسمية عما جرى وكيف حدث أن دخل اللصوص إلى المكان الأهم، حيث تُحفظ هوية سورية الحضارية!
على صعيد الأنشطة أقامت الفرق الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة عدة حفلات في دار الأوبرا منذ التحرير، وكانت لحظات رمزية جميلة، لكنها بقيت ضمن إطار مناسباتي لا يعكس رؤية واضحة. وحتى في ما يخص مناسبة الذكرى الأولى للتحرير، جرى إلغاء الحفل الموسيقي الذي كان يزمع الموسيقار مالك جندلي إقامته في ساحة الساعة في حمص، من دون توضيح الأسباب في البداية، لكن تصاعد الجدل دفع بمفتي حمص وعضو مجلس الإفتاء الأعلى، الشيخ سهل جنيد لتوضيح أن سبب الإلغاء يتعلق برؤية دينية ترى "إن إلغاء فعالية أوركسترا في ساحة تحمل ذاكرة الدم والدمع هو احترام للدماء التي رفعت هذه البلاد ووفاء لأهالي وذوي الشهداء أو قل هو طاعة للرحمن أولًا" الأمر الذي يكشف أن المشهد الثقافي بات محكومًا بالتداخل بين السلطات الثقافية والدينية والسياسية.
مع أن هذه الواقعة حديثة وما زال الحكي فيها رائجًا على شبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن السؤال الأعمق الذي لا بد من طرحه اليوم، حيال قلة الأنشطة الثقافية هو: هل غياب النشاط الثقافي ناتج عن أزمة مالية أم أنّ السلطة الجديدة لا تثق بالمثقفين الذين لا ينتمون إلى دائرتها الضيقة؟ تبدو السلطة أقرب إلى الاعتماد على المقرّبين، حتى إن لم تكن لهم الخبرة الكافية، وهذا يعيد إنتاج مناخ الشك، والخوف من الاختلاف، والذي لا يمكّن الثقافة السورية من المضي قدمًا نحو آفاق رحبة.