اوراق خاصة

عن الجنوب السوري .. نبض ضد الاستسلام

post-img

معتز منصور/ باحث سياسي

تتداخل السكينة المخاتلة مع واقع بالغ الاضطراب، في الجنوب السوري، فما يظهر على السطح ليس سوى قشرة رقيقة تغطي واحدًا من أعقد المشاهد السورية منذ سقوط هيبة الدولة على تخوم القنيطرة وريف درعا الغربي.

هناك؛ حيث كانت الحدود سابقًا أكثر الجبهات السورية انضباطًا، تحولت المنطقة خلال السنوات الماضية إلى فراغ واسع تتقاطع فيه الفصائل والسلاح والمال الخارجي. وتتحرك فيه إسرائيل بثقة قوة تعرف جيدًا أن أحدًا لا يقف في وجهها. ومع الانهيار السياسي والعسكري اللاحق بسقوط دمشق، ازداد هذا الفراغ رسوخًا حتى صار الجنوب مساحة تتصرف فيها إسرائيل كما تشاء: توغلات، اعتقالات، هدم مواقع، تفتيش قرى، وفرض واقع جديد بلا إعلان رسمي، وكل ذلك يحدث تقريبًا بلا ردّ فعل من السلطة التي اختارت الصمت السياسة، وليس لأنّها عاجزة أيضًا.

لكنّ هذا الروتين الثقيل انكسر، ذات صباح، حين دخلت قوة إسرائيلية قرية محاذية للجولان في مهمة اعتقال مألوفة. كانت تتحرك كما فعلت عشرات المرات، مطمئنة إلى أن المشهد لن يختلف هذه المرة، وأن لا أحد سيقف بوجهها. غير أن ما لم تتوقعه تلك القوة هو أن بعض أبناء القرية، والذين عاشوا سنوات طويلة تحت وطأة الإذلال ومشهد الاحتلال اليومي، قرروا فجأة أن الصمت لم يعد خيارًا. هؤلاء لم يكونوا مقاتلين محترفين، ولا جزءًا من تنظيمات عسكرية، ولا ممّن يحسبون خطوط الهجوم والانكشاف. كانوا ببساطة بشرًا وصلوا إلى النقطة التي يصبح عندها الموت تعبيرًا طبيعيًا عن رفض الذل. وهكذا اندفعوا نحو الاشتباك داخل شوارع قريتهم، لا خارجها، لأنهم لم يرصدوا تحركات العدو مسبقًا ولم يتهيأوا لها. كانت لحظة ارتجال إنساني خالصة، لحظة من النوع الذي لا تحسب له القوة المحتلة حسابًا؛ لأنه يأتي من خارج المعادلات كلها.

هذا النوع من الاندفاع ليس جديدًا في تاريخ المنطقة، ويكاد يكون جزءًا من بنيتها النفسية والاجتماعية. التاريخ السوري، مثل تاريخ العراق ولبنان وفلسطين، مليء بمواقف مشابهة: أفراد وجماعات تقف أمام قوة كبرى على الرغم من إدراكها المسبق بأنّ لا نصر ماديًا بانتظارها. لكنها تدرك أيضًا أن هناك حدودًا لا يمكن الحياة من دون تجاوزها. ما يحدث في تلك اللحظات ليس بطولة رومانسية ولا انتحارًا عاطفيًا، هو انفجار كرامة تصل حدّها الأخير. إنه النوع من الفعل الذي يعيد صياغة التاريخ النفسي للمجتمع أكثر مما يغيّر الخريطة العسكرية.

في المقابل؛ كانت السلطة القائمة غائبة كليًا تقريبًا. لا رواية رسمية، لا حضور سياسي، لا محاولة لفهم ما جرى أو احتوائه أو حتى الإيحاء بأنها معنية. السلطة التي تحافظ على قشرة الدولة في دمشق لا تملك في الجنوب إلا ظلًا باهتًا. لم تعد تمسك بالمجتمع ولا بالأرض، ولا تملك القدرة على تشكيل ردع أو إدارة توازن. هذا الفراغ منح إسرائيل فرصة للانتقال من "إدارة المشهد" إلى "إعادة تشكيله".

هي لا تريد فقط منع أي قوة من إعادة التمسك بالجنوب، بل تسعى لإعادة هندسة البنية الاجتماعية نفسها، خصوصًا المناطق الجبلية ذات الامتدادات الأسرية والطائفية المتماسكة، لأنها تاريخيًا الأكثر قدرة على إنجاب مقاومات محلية يصعب القضاء عليها.

ربط إسرائيل بين الجنوب السوري والجنوب اللبناني ليس اجتهادًا أمنيًا؛ بقد  ما هو رؤية استراتيجية. المنطقتان، على الرغم من اختلاف السياسة والولاءات، تنتميان إلى بيئة جبلية صلبة يصعب إخضاعها بالكامل، تحمل إرثًا طويلًا من المقاومة، وتملك علاقات عائلية وعشائرية تجعل رد الفعل الاجتماعي سريعًا وعميقًا. أما المناطق السهلية، والتي انهارت مبكرًا تحت ضغط الحرب والمال والتهجير، فقد خرجت من المعادلة منذ سنوات. إسرائيل تعرف أن التحدي الحقيقي ليس في استعادة السيطرة على أرض مهجورة، بل في تفكيك مجتمعات ما تزال قادرة على إنتاج الرفض.

على الرغم من الخراب الهائل الذي أصاب الجنوب، ما تزال تلك المجتمعات تحتفظ بحدس داخلي يجعلها تتحرك عند اللحظة الحرجة من دون انتظار قرار مركزي. وهذا ما يقلق إسرائيل أكثر من أي قوة منظمة. المقاتل النظامي يمكن احتواؤه، والفصيل المسلح يمكن شراؤه أو تفكيكه أو جرّه إلى صراع داخلي، أما الاندفاع الشعبي فهو الخطر الذي لا يمكن التنبؤ به. وهو ما يفسر تكثيف العمليات خلال السنة الأخيرة ومحاولة تفريغ المنطقة من عناصر القوة المجتمعية قبل أن تتحول الشرارة المتفرقة إلى نمط مستدام.

غير أن ما جرى في القرية الحدودية أظهر أن هذا التفريغ لم يكتمل. ثمة شيء لم يمت في الجنوب، شيء يشبه ما تبقى من نبض في جسد أنهكته الحرب؛ ولكنه يرفض أن يُختزل في صورة المهزوم. قد لا يغيّر ذلك ميزان القوى، لكنه يعيد صياغة حدود القبول الاجتماعي، ويذكّر بأن الاستسلام ليس عملية نهائية بل حال قابلة للانكسار في أي لحظة. وبقدر ما يرسل رسالة إلى إسرائيل، فإنه يبعث برسالة أكثر قسوة إلى السلطة الغائبة: إن الجنوب لم يعد يعترف إلا بالحقائق التي يصنعها أبناؤه، لا بالبيانات ولا بالتهويمات ولا بالتظاهر بامتلاك سيادة لا وجود لها.

بهذا المعنى، لا يعود الحدث مجرد مواجهة محدودة، بل نافذة تكشف طبيعة الجنوب اليوم: رقعة جغرافية تتنازعها قوة تحتل، وسلطة تتآكل، ومجتمع خائف؛ لكنه لم يفقد تمامًا القدرة على أن يقول «لا» حين يغلق عليه القهر الطرق الأخرى كلها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد