معتز منصور/ باحث سياسي
لم تعد التطورات الجارية، في جنوب اليمن، قابلة للفهم ضمن غطار الصراع الداخلي اليمني، ولا حتى ضمن ثنائية الحكومة المعترف بها دوليًا في مواجهة جماعة أنصار الله.
ما يتكشف تدريجيًا هو انتقال محسوب من مرحلة الحرب المباشرةـ والتي قادتها المملكة العربية السعودية منذ العام 2015، وانتهت الى طريق مسدود، نحو مرحلة أكثر تعقيدًا تقوم على تفكيك الجغرافيا وإعادة توظيفها ضمن منظومة صراع اقليمي أوسع، تقوده الولايات المتحدة وتديره ميدانيًا الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، مع قبول سعودي ضمني بنتائج هذا التحول.
في هذا السياق، لا يمكن قراءة السيطرة السريعة التي حققها المجلس الانتقالي الجنوبي، بقيادة عيدروس الزبيدي على مساحات واسعة من حضرموت والمهرة وعلى الموانئ والمنافذ الحيوية، كونها تطورًا محليًا معزولًا. إذ إن المشهد، في جوهره، يتجاوز فكرة الانتصارات الميدانية لقوة انفصالية، ليكشف عملية تسليم منظم للجنوب اليمني تقوم به القوات التابعة للمجلس الرئاسي المدعوم سعوديًا لمصلحة كيان عسكري سياسي تحمله أبو ظبي، وتوفر له الغطاء والأدوات. وما الانسحابات التي جرت، من دون مقاومة تذكر، والصمت السياسي المريب في الرياض، إلا مؤشر على إعادة توزيع أدوار داخل التحالف نفسه، ولا يبدوان تفصيلًا عابرًا.
يزداد هذا الاستنتاج وضوحًا إذا ما استعيدت تجربة السنوات الماضية. إذ بعد قرابة عقد من الحرب، باتت السعودية أمام قناعة استراتيجية صلبة مفادها أن الحسم العسكري ضد أنصار الله غير ممكن، وأن كلفة الاستمرار في المواجهة المباشرة باتت أعلى من قدرتها على الاحتمال. ضربة منشآت أرامكو، في سبتمبر/أيلول 2019، لم تكن مجرد حادث أمني استثنائي، هي لحظة كاشفة أعادت رسم حدود القوة السعودية وحدود المخاطرة الممكنة. من هنا، يبدو أن خيار الانسحاب من الواجهة، مقابل تفويض أطراف أخرى بإدارة جبهات بديلة، بات الخيار الأقل كلفة، حيث تستمر المعركة بعيدًا عن العمق السعودي، فيما يبقى الضغط قائمًا على الخصم من مسار مختلف.
في المقابل؛ يظهر الدور الإماراتي بوصفه الأكثر تماسكًا واتساقًا، في هذا المشهد المركب. إذ منذ سنوات، تعمل أبو ظبي على بناء شبكة نفوذ بحرية ممتدة من موانئ جنوب اليمن إلى جزيرة سقطرى، ثم إلى القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
إذ إن السيطرة على الجنوب اليمني تمنحها نفوذًا مباشرًا على الموانئ النفطية والغازية، وقدرة مؤثرة على التحكم بخطوط الملاحة الدولية، وموقعا متقدمًا في أي معادلة أمنية تتصل بمضيق باب المندب. ضمن هذه الرؤية، لا يبدو المجلس الانتقالي الجنوبي فاعلًا مستقلًا، بقدر ما يؤدي وظيفة محلية محددة داخل مشروع إقليمي أشمل، يتقاطع عضويًا مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية في تأمين الممرات البحرية وتطويق القوى المناوئة.
من هذا المنطلق، يمكن فهم الاهتمام الإسرائيلي المتزايد بجنوب اليمن. إذ بالنسبة إلى "تل أبيب"، يشكل هذا المسرح فرصة استراتيجية منخفضة الكلفة مقارنة بجبهات أكثر حساسية. بعد التعثر في لبنان والاستنزاف المفتوح في غزة، تبدو الحاجة ملحة لفتح مسار صراع إضافي بعيد عن الحدود المباشرة.
في هذا الإطار، لا يمكن فصل إعلان عيدروس الزبيدي استعداده للاعتراف بــ"إسرائيل" وفتح علاقات دبلوماسية معها لهذا العرض السياسي المتكامل، والذي يسعى إلى دمج الكيان الانفصالي المحتمل ضمن منظومة التطبيع الإقليمي. قيام دولة جنوبية موالية لــ"إسرائيل" يحقق لها مكاسب متعددة، من إشغال حركة "أنصار الله" بجبهة جنوبية طويلة النفس، إلى تقليص قدرتهم على التأثير في البحر الأحمر، وصولًا إلى تحويل اليمن من مصدر تهديد إلى ساحة ضبط واحتواء.
حتى في حال أخفقت قوات المجلس الانتقالي في تحقيق نصر عسكري حاسم، يبقى الهدف الأهم قائمًا. وهو إدخال الصراع في استنزاف دائم. هذا النموذج لا يقوم على منطق الحسم، إنما على إرهاق الخصم، وتشتيت جهده، وفرض واقع صراع مفتوح شبيه بما تسعى إسرائيل الى تكريسه في غزة، حيث يستمر النزيف من دون أفق واضح لنهاية قريبة.
في الخلفية، توفر الولايات المتحدة الغطاء السياسي والاستراتيجي لهذا المسار. هي لا تبحث عن حسم الصراع في اليمن، بل عن إدارته ضمن حدود يمكن التحكم بها. تفكيك اليمن، أو تحويله الى كيانات وظيفية متنازعة، يمنع نشوء دولة مركزية قوية خارج منظومة النفوذ الأمريكي، ويضمن في الوقت نفسه أمن الممرات البحرية الحيوية للتجارة العالمية. من هذا المنظور، يصبح الاعتراف الدولي بدولة جنوبية محتملة خطوة واردة، متى التزمت بالدور الوظيفي المطلوب منها في معادلة الأمن الإقليمي.
غير أن هذا المسار، على الرغم من التفوق التكتيكي الذي يبدو غيه، لا يخلو من مخاطر بنيوية عميقة. فتح جبهة جنوبية لا يعني بالضرورة إنهاك الخصم، قد يؤدي الى نتائج معاكسة تبدأ بتعزيز التماسك الداخلي في الشمال، ولا تنتهي عند تسريع تطوير قدرات عسكرية أكثر نوعية أو توسيع رقعة الصراع إقليميًا وبحريًا. التجربة التاريخية في المنطقة تظهر أن القوى التي تتعرض للحصار غالبًا ما تطور أدوات رد غير متماثلة، تتجاوز الجغرافيا المفروضة عليها، وتضرب في نقاط لم تكن محسوبة في الحسابات الأولى.
في المحصلة، ما يجري في اليمن اليوم يمثل اختبارًا حقيقيًا لمعادلات القوة في منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط)؛ فإما أن يحظى التحالف الأمريكي – الإماراتي- الإسرائيلي بقبول سعودي في فرض نموذج التفكيك والسيطرة الوظيفية، وإما أن يتحول هذا المسار نفسه إلى نقطة ارتداد تعيد إنتاج الصراع بشكل أشمل، يتجاوز حدود اليمن ليطال منظومة الأمن الإقليمي برمتها.
جنوب اليمن لم يعد هامشًا، لقد غدا قلب معركة غير معلنة حيال مستقبل البحر الأحمر وموازين القوة في شبه الجزيرة العربية وشكل الصراع في المرحلة المقبلة. وما يبدو اليوم مكسبًا سهلًا لقوى مدعومة خارجيًا، قد يتحول غدًا الى عبء استراتيجي ثقيل حين تخرج الجبهات المستحدثة عن السيطرة وتفرض منطقها الخاص.
في مثل هذه الصراعات، لا تكون الجغرافيا نهاية اللعبة، بل بدايتها.