خالد بشير/ العربي الجديد
بعد فشل تيودور هرتزل في إقناع السلطان عبد الحميد الثاني، في العام 1901، بالسماح للاستيطان اليهودي في فلسطين، مقابل مساعدة مالية للدولة العثمانية، لجأ لكتابة عمل سردي من شأنه توفير المزيد من الشحن المعنوي والتخييلي الرمزي للمشروع/الحلم الصهيوني، وترويجه وإظهار كم سيكون مفيدًا نافعًا، ليس لليهود فقط، بل لسكان فلسطين وللسلطنة، وللعالم أجمع. وهو بمثابة النظير الأدبي لكتابه الشهير "الدولة اليهودية" (1896)، ويتضمن أفكاره لتأسيس الوطن القومي لليهود في فلسطين.
تنتمي هذه الرواية التي صدرت نسختها العربية بعنوان "أرض الميعاد.. ألتنويلاند" (دار الرافدين، 2025)، إلى جنس أدبيات اليوتوبيا، فهي تتخيَّل عملية تشييد مجتمع طوباوي فاضل ومثالي، يجمع ما بين خيرات الاشتراكية والديمقراطية مع التعددية العرقية والنهوض القومي، والتقدم العلمي والتقني، وتشبه بذلك أدبيات اليوتوبيا التي عرفت نهوضًا مع تصاعد وتبلور الأيديولوجيات الكبرى خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متأثرة بالثورة الصناعية، وما رافقها من التغيرات الاجتماعية الكبرى، حيث ظهرت أعمال عدّة تصوّر مجتمعات مثالية قائمة على الاشتراكية والتعاون والمساواة، أبرزها "أخبار من لا مكان" لويليام موريس، و"بالنظر إلى الوراء" لإدوارد بيلامي، بالإضافة إلى اليوتوبيا النسوية التي حلمت بعالم تحكمه النساء، كما ظهرت بذور روايات الديستوبيا في أعمال، مثل "آلة الزمن" لـ هربرت جورج ويلز التي حذرت من انقسام الطبقات.
عنوان الرواية بلغة النشر الأصلية، الألمانية، هو "أتنويلاند"، ويعني "الأرض القديمة الجديدة"، والأرض قصد بها هرتزل أرض فلسطين، وهي "الأرض القديمة"؛ حيث تتحدث قصص التوراة عن الممالك المزدهرة التي أقامها أسلاف اليهود فيها، وهي ذاتها الخيار والمكان الأمثل لأن يقيم فيها اليهود الأوروبيون، بداية القرن العشرين "المجتمع اليهودي الجديد"، الذي طمح هرتزل ورفاقه من آباء الصهيونية إلى تشييده وإرساء دعائمه.
لم يكن هرتزل كاتبًا روائيًا محترفًا، ولم يبذل جهدًا في إقامة بناء روائي وحبكات محكمة، ولم يقدم شخصيات معقّدة تنطوي على تطورات وتقلبات أو حوارات داخلية مركبة، ولم يستدخل أيضًا أساليب تخييلية، بقدر ما أسقط أفكاره ورؤيته الصهيونية السياسية في قالب روائي رمزي يهدف للتحشيد لإقامة الوطن اليهودي الجديد.
على مستوى الشخصيات ورمزيتها، نجد في قلب الرواية شخصية فريدريش لوينبيرغ، بطل الرواية، وهو طبيب يهودي شاب من الطبقة المتوسطة، مقيم في فيينا، يُصاب باليأس، ويسيطر على حياته البؤس بعد زواج محبوبته من ثري يهودي، بينما عجز هو عن الارتباط بها بسبب محدوديته المادية، ومن خلاله يقدم هرتزل نموذجًا للشباب اليهودي في أوروبا الذي يجاهد للصعود، ولكن عبثًا يفشل في تحقيق مساعيه.
دافيد ليتفاك شخصية أخرى تظهر في بدايات الرواية، وهو طفل متسوّل في فيينا، وابن بائع متجوّل يهودي (النموذج التجاري الذي كان يمقته هرتزل لليهود من الطبقات الدنيا، كما عبّر عن ذلك في كتابه "الدولة اليهودية")، يلتقي به فريدريش أول مرة وهو على هذه الحال، التي يستحيل معها أن يحقق أي صعود اجتماعي-اقتصادي؛ نموذج يعبّر عن الحالة البائسة للطبقات الدنيا من اليهود في أوروبا.
تأتي نقطة التحوّل في الأحداث مع وصول فريدريش إلى إعلان لرجل ثري بروسي مسيحي (شخصية محورية في الرواية يدعى كينغسكورت)، يبحث فيه عمن يرافقه في رحلة إلى جزيرة نائية في المحيط الهادئ مقابل أجر. وكينغسكورت شخص كاره للبشر، يزدري الأخلاقيات الأوروبية، وقد مر بتجارب (خيانة من زوجته وابن أخيه) جعلته كذلك، وسيكون لصورة هذه الشخصية وما يطرأ عليها من تحوّل جوهري لاحق علاقة برسالة سيضمّنها هرتزل أيضًا في تقديمه المثالي للمجتمع الجديد، باعتباره مجتمع تعافٍ، للبشرية جمعاء، لا لليهود وحسب.
ينطلق فريدريش وكينغسكورت في رحلتهما، وفي الطريق، يقفان، في سنة 1902 (عام نشر الرواية)، في فلسطين ليقوما فيها بجولة سريعة. ويصفان المشهد الطاغي وهو الفقر والبؤس وسوء الأحوال لسكان البلاد -من عرب ويهود- وتردي حالة المدن؛ حيث الشوارع المتسخة والحُفاة. وهنا يقوم هرتزل بتضمين مشاهداته أثناء رحلته التي قام بها إلى فلسطين برفقة مجموعة من الصهاينة الأوائل عام 1898، حيث كانت انطباعاته متطابقة مع الانطباعات التي حصلت عند فريدريش وكينغسكورت. وبعد أن رأوا البلاد في حالتها البائسة، واطلعوا على بدايات تجدد الاستيطان اليهودي هناك، تابعوا رحلتهم إلى الجزيرة، حيث مكثوا عشرين عامًا.
عند عودتهما إلى أوروبا، بعد هذين العقدين، توقفا مرة أخرى في فلسطين. لكن هذه المرة يجدان بلدًا مزدهرًا، تقوده وتشرف عليه منظمة تحمل ذات الاسم، في إشارة للمنظمة الصهيونية العالمية التي تأسست قبل بضع سنوات من نشر الرواية، حيث قامت هذه المنظمة بجلب اليهود من أوروبا، إلى أرض الآباء، أرض المجتمع الجديد، المجتمع الذي يغيّر اليهود وكل من ينضم إليهم، فينهي حالة اليأس التي تطغى على اليهود في أوروبا، ويعيد تشكيلهم ليخرجوا أفضل ما لديهم من طاقات، محققين ذاتهم الفردية عبر الاندماج في عملية استنهاض وانبعاث وتشافٍ للذات والهوية اليهودية الجمعية.
هنا يظهر دافيد الذي أصبح أحد قادة "المجتمع الجديد"، حيث اصطحبهما في جولة طويلة، عرّفتهم على فضائل ألتنويلاند، وعرّفتهم إلى أهم قادتها من التيارات السياسة المختلفة. ومن خلال هذا التحوّل الجذري الذي يصيب دافيد وحياته، يقدم هرتزل المثال على المدى المنشود من التحول والنهوض الذي يؤمّل أن يلحق بيهود أوروبا البائسين، عبر انضمامهم وانخراطهم بهذا المجتمع الفاضل الذي يغدو فيه المتسول قائدًا سياسيًا.
في النهاية، يقتنع فريدريش وكينغسكورت بالبقاء في البلاد، التي تقبل التعدد وتعمل بآليات قائمة على الاقتراع والحكم الانتخابي الديمقراطي، وهكذا يقرران التخلي عن نمط حياتهما المنعزل واليائس، ويختاران أن يصبحا عضوين فاعلين في المجتمع الجديد. وهنا نرى الصورة التي يرسمها هرتزل؛ حيث يأس كينغسكورت (وهو الألماني المسيحي، غير اليهودي) من الحياة، ويأسه العميق من الطبيعة البشرية، وكرهه للبشر، وهي السمات المميزة لشخصيته على مدار الرواية. وبذلك فإن هذا التحوّل يمثل مساهمة تطور "المجتمع الجديد" للبشرية جمعاء وليس لليهود وحدهم.
تشيّد الرواية مجتمعًا فاضلًا ومثاليًا يؤمن بالتعددية والعدالة
خلافًا لكُتّاب ومنظّرين آخرين من الصهاينة الأوائل، لا يُنكر هرتزل وجود العنصر العربي في فلسطين، بل يحضر في واحدة من الشخصيات المهمة في الرواية، وهي الإقطاعي رشيد بك الذي يرتدي الطربوش وامرأته تغطي وجهها وكفّيها، حيث ينضمّ للمجتمع الجديد، ويصبح عضوًا فاعلًا فيه، ويحقق المنافع والمكاسب بذلك. في إشارة ضمنيّة من هرتزل إلى أن العرب مدعوون للمشاركة في المجتمع اليهودي التعددي المنشود، وإلى أن المشروع الصهيوني لا يُراد له أن يُقام على حساب تدمير مصالح وحياة أهالي البلاد، بل إنه سيجلب المنافع لهم!
ترسم الرواية مجتمعًا تعاونيًا مسالمًا أكثر منه دولة بالمفهوم المعاصر، فهناك تُجار من شتى المِلل؛ السريان والأرمن واليونان، يعيشون في حالة تناغم مع النسيج الشرقي العثماني المتعدد، ويرفضون رفضًا قاطعًا جميع أشكال كراهية الأجانب، والشوفينية الفجة، والانعزالية الوطنية الاستعلائية. ويصوّر هرتزل الحاخام الدكتور غاير شخصية شريرة، كونه متعصبًا دينيًا وكارهًا الأجانب، ويؤمن بـ"ضرورة حصر حق المواطنة وحقوق التصويت في الدولة اليهودية على اليهودي"، ويضع على لسانه العبارات العنصرية ذاتها التي كان يتحدث بها معادو السامية ضد اليهود في أوروبا، آنذاك، ولكن مع تغيير المسميات المضمّنة في تلك العبارات من غير اليهود إلى اليهود أنفسهم (على لسان هذا الحاخام).