معتز منصور / باحث سياسي
في العقد الأخير، أثبت الغاز الطبيعي أنه لم يعد مجرد سلعة للطاقة، لقد أصبح أداة استراتيجية تمس الاقتصاد والسياسة والأمن العالمي. من روسيا وتركيا وقطر إلى أوروبا والولايات المتحدة. صارت خطوط الغاز تمثل محور صراع لا يقتصر على الأسعار أو العوائد المالية، أيضًا على السيطرة على مسارات الطاقة ومقدرات الدول.
يعود الاهتمام بالممرات الطاقوية إلى حقبة بدأت قبل 15 عامًا، حين كانت المشاريع الكبرى لخطوط الأنابيب بين غرب أىسيا (الشرق الأوسط) وأوروبا تُفكر من زاوية التكامل الاقتصادي. لكنها في العمق؛ كانت اختبارات للنفوذ السياسي والتحالفات الدولية.
في هذا السياق، أدت قطر دورًا محوريًا بمحاولتها إقامة خط أنابيب عبر السعودية وسوريا إلى المتوسط، بهدف تصدير الغاز المسال إلى أوروبا. مع ذلك، فإن مثل هذه المشاريع لم تكن مجرد صفقات تجارية، لقد كانت حلقات في صراع جيوسياسي أوسع، يضم روسيا وإيران والولايات المتحدة وأوروبا، حيث كل دولة سعت إلى تأمين موقعها الاستراتيجي في سوق الطاقة العالمي. كما أن رفض بعض الدول لهذه المشاريع لم يكن اقتصاديًا وحسب، إنما هو سياسي بالدرجة الأولى. إذ إن التحالفات الإقليمية، لاسيما بين سوريا وروسيا وإيران، حولت بعض الأراضي إلى عقد حيوية لممرات الطاقة، أو إلى نقاط ضعف يجب السيطرة عليها أو تعطيلها. لقد أصبح واضحًا أن امتلاك الغاز لا يكفي، ولا بد من القدرة على التحكم بالطرق التي يمر فيها، وإلا فستظل الدولة المستضيفة لهذه الممرات رهينة للضغوط الخارجية.
ما ميز العقد الأخير هو أن خطوط الأنابيب لم تعد آمنة. التفجيرات التي طالت خط نورد ستريم، في بحر البلطيق في العام 2022، كشفت هشاشة البنى التحتية للطاقة، وأوضحت أن الصراع يمكن أن يتحول بسرعة من ساحة اقتصادية إلى ميدان حربي مباشر. القدرة على تعطيل خطوط الغاز أصبحت، اليوم، سلاحًا، واللاعبون الكبار لم يعودوا يعتمدون فقط على التهديد السياسي، أيضًا على القدرة الفعلية على خلق الانهيارات في النظام الطاقوي العالمي.
أوروبا، والتي كانت السوق الرئيس للغاز الروسي، اضطرت بعد الأزمة إلى استيراد الغاز المسال الأمريكي بأسعار أعلى، وهذا تحول أعاد تعريف موازين القوة. الولايات المتحدة تحولت من مجرد ضامن أمني إلى فاعل رئيسي في التحكم بأسواق الغاز والسياسة الاقتصادية الأوروبية، هذا ما يمثل نوعًا جديدًا من السيطرة الاستراتيجية على الطاقة العالمية من دون الحاجة إلى احتلال مباشر أو تحالفات تقليدية. قطر، على الرغم من توسع صادراتها من الغاز المسال، اكتشفت حدود سيطرتها، إذ إن مشاريع خطوط الأنابيب العابرة للشرق الأوسط فشلت أو تأجلت، وأصبح الاعتماد على الممرات البحرية مكلفًا وهشًا من ناحية التأمين والبنية التحتية.
هذا يوضح أن الدول الصغيرة، حتى عند امتلاكها موارد ضخمة، لا تستطيع فرض سيطرة استراتيجية إلا إذا كان لديها قدرة على ضمان الاستقرار السياسي والأمني في مناطق مرور الطاقة. تركيا واجهت واقعًا مشابهًا، على الرغم من دورها بصفتها ممرًا لخطوط الغاز من أذربيجان وآسيا الوسطى نحو أوروبا عبر مشاريع، مثل تاناب وتاب. لكن لم تمنح هذه المشاريع تركيا مركز القرار الكامل، إذ ظلت الدول الأوروبية حذرة من الاعتماد الكلي على هذا الممر، لاسيما بعد تقلبات السياسة الإقليمية ومخاطر الفوضى في سوريا والعراق. هكذا تراجع حلم تركيا بأن تصبح موزع الطاقة الرئيسي، لتحل محل روسيا في تأدية دور الحاكم على إمدادات الغاز إلى القارة.
أما سوريا، والتي كانت إحدى الدول المستهدفة لمنعها من أن تصبح ممرًا مستقلًا، تحولت إلى عقدة التعطيل الأساسية. كل المشاريع التي كان يمكن أن تمنح البدائل لروسيا أو قطر اصطدمت بالواقع العسكري والسياسي، ما جعل البلاد محور استنزاف دائم. كما أن استمرار الانقسام والفوضى في سوريا ليس نتيجة سوء إدارة فقط، هو أيضًا انعكاس طبيعي لواقع ممرات الطاقة التي تمر عبرها، والتي أصبحت أهدافًا استراتيجية للسيطرة أو التعطيل.
شرق المتوسط، والذي روج له على أنه منافس للغاز الروسي؛ تحول إلى مأزق استراتيجي. اكتشافات الغاز قبالة فلسطين المحتلة وقبرص ومصر لم تتحول إلى طفرة تصديرية؛ بسبب ارتفاع تكلفة الاستخراج وهشاشة البنية التحتية وتعقيدات الأمن البحري والسياسي. إن مشاريع، مثل EastMed، جمدت عمليًا، والكيان الصهيوني وجد نفسه مضطرًا للحفاظ على منشآته وسط توترات إقليمية مستمرة، ما يوضح أن الموارد المكتشفة لا تعني بالضرورة تحكمًا في الأسواق العالمية. كما أن التنظيمات المسلحة التي ظهرت في المنطقة، سواء في سوريا أم في سيناء أم في العراق، لم تكن أدوات هندسية دقيقة للممرات كما يظن البعض، هي أدوات للفوضى استُثمرت جزئيًا لمصلحة اللاعبين الكبار.
لم يكن الغرب يدير مخططًا متقنًا يضمن خطوط مستقرة، لقد كان يخلق حالًا من الفوضى الجزئية، تسمح له بالتحكم في التوازنات من بعيد. أما الفوضى؛ هي نفسها أصبحت جزءًا من استراتيجية السيطرة، ما يبرز أن القدرة على التعطيل أصبحت أداة استراتيجية أكثر من القدرة على الإنتاج وحده.
اليوم، ممرات الغاز لم تعد مجرد طرق تجارية، لقد أضحت خطوط ضغط جيوسياسية. إذ من يملك القدرة على تعطيل مرور الغاز يملك القدرة على اختناق اقتصادات كاملة وفرض شروط سياسية. كذلك الطاقة لم تعد مجرد رافعة اقتصادية، لقد أصبحت أداة ابتزاز متشابكة مع التحالفات العسكرية والنزاعات الإقليمية والمناورات الدبلوماسية غير المباشرة.
من هذا المنظور، يصبح الغاز مؤشرًا على القدرة الاستراتيجية للدول، في القرن الحادي والعشرين. ذلك أن القوة ليست فقط في الإنتاج، هي في القدرة على تأمين الممرات والتأثير في الأسواق وخلق ديناميات معقدة تحدد من يمكنه الإفادة، ومن يظل رهينة الانهيارات. والانهيارات، اليوم، أهم من المشاريع، والقدرة على التأثير أهم من مجرد امتلاك الموارد.
في الخلاصة
ممرات الغاز لم تصنع نظامًا عالميًا مستقرًا، لقد كشفت هشاشة النظام القائم، وجعلت كل دولة لاعبًا مضطرًا لموازنة مصالحها بين القدرة على الإنتاج والقدرة على التحكم بالانهيارات. ومن ظن أن الأنابيب تصنع إمبراطوريات؛ اكتشف أن الإمبراطورية الحقيقية تحتاج إلى قدرة على الصمود حين تتحول الخطوط إلى أهداف مباشرة، وإلى فهم أن الغاز ليس مجرد سلعة، هو محور صراع مستمر على النفوذ العالمي.