إنها الواحدة والنصف ليلاً..
ما زلتُ سعيداً
عشت يوماً عادياً
استيقظتُ وحيداً جداً وسأنام وحيداً كذلك
مرتاحَ البال
وبلا عناق،
أقولُ للعالمِ:
لا فرق، كنْ كما شئت.
■ ■ ■
أصحو مع العصافير
وأنام مع الكلاب
أربّي قطّ شوارع أجرب
وغزلاناً متطوّعةً لقصائد لا تركض
لديّ ملامحُ أجنبيٍ أو غريبٍ في منفى
وأحتفظُ بعلامة متشرّد على جبيني
أبدو كغولٍ عندما أضحك
كدودةٍ عندما أبكي
يعرفني الباعة الجوّالون وعمّال النظافة
ثيابي متّسخةٌ وجيوبي مثقوبة
في رأسي سوق خضارٍ ومشترون
وفي قلبي فواكه بالمجان.
■ ■ ■
ليس هنالك من مكانٍ
كل الخرائطِ لا تصلحُ
بيتي مشيدٌ بآثامِ امرأةٍ تركتها
فيه أغنّي وحدي
وأنام وحدي
لا أحلمُ بأحدٍ، لا أتذكّرُ أحداً...
لو يتنبّأ بي
بستانيٌ أعور
لو يراني بعينهِ المطفأةِ فقط...
أحلمُ لو أكون الشجرة التي أصعدها
في الطفولة
وأن تكونَ لي مليون ذراعٍ
ألعب بها بالدسائس
مع هذه الثعابين
أن تحتفي بي حشرةٌ منقرضة
وأن تنتهي سلالتي..
قبل أن تبدأ.
■ ■ ■
نخاف الكوادكابتر، هذه الوحوش الصغيرة، ويومياً في الليل، نعود إلى الداخل هرباً من خفّتها في اصطيادنا. اليوم، أعني قبل دقائق، في الشارع، نعدّ الطائرات: 1 2 3 واحدة منها تطلق النار علينا.
■ ■ ■
ننام على حقائب النزوح لا على وسائد.
■ ■ ■
يعادل النزوح أحياناً دويّ الصواريخ، كل ما في الأمر أن لديه طريقة أخرى لقتلنا.
■ ■ ■
«تعبنا تعب الله اللي بعلم فيه...»
يتعكّز على خشبة مهترئة لأن عكازه كسر في حادثة ثم استخدموه لإشعال النار للخبيز، أخبرني مرّة بهذا ونحن نصعد مرتفعاً من البحر حتى شارعي في النزوح، نتحدث طوال الطريق حتى أصل، كل يوم لديه قصّة، تبدأ من: «عمنقول، في الثماني وأربعين» وتنتهي بـ: «تعبنا تعب آخ يابا.. بس الله اللي بعلم فيه» ويبكي.
■ ■ ■
يكلّمني وينزعج من صوت الطائرات. كيف تتحمّل؟ أعتذر له، أريد أن أخبره أشياء أخرى أيضاً، لكنني أنهي المكالمة في عجالة قبل أن يسقط الصاروخ. ما زال هناك كلام عالق، يرسل لي، لكنّه غير مهم، أقول له. هناك من يصرخ تحت أنقاض بيته؛ وإني لا أسمع صوتاً سواه الآن.
■ ■ ■
حذائي صار أضيق
لماذا لا ينتهي جبل الراحلين،
وسفر الصعود يا أبي
لماذا إذاً لا يتعب!
■ ■ ■
هناك من يموت لأسباب أخرى، مثل ندى الصغيرة التي توقف قلبها من صوت استهداف في مخيم النصيرات.
هناك من يموت قهراً في خيمته، مثل جارنا في رفح
هناك من طلع له طفح جلدي، ومن تساقط شعره فجأة، مثل جميل أبو سعيد الذي قتله الكبد الوبائي
وهناك من عرف في اللحظة الأخيرة أنه مصابٌ بالسَّرطان
واستسلم
■ ■ ■
تبكي المرأة من العائلة التي تستقبلها عائلتي، هذه هي المرة الأولى لها في النزوح. أفكر بأمي التي لم تجد كلمات لتقولها لها سوى: «هاي المرّة التاسعة إلنا يا خالتي وهَيِّنا بخير...»
■ ■ ■
أربعون ألفاً؟ يا إلهي! إنني أعرفهم جميعهم.
■ ■ ■
رغم أن كل متر في السماء فيه طائرة كوادكابتر، لكن يبدو أنّ عنوان الليلة هو طائرات الأباتشي!
■ ■ ■
ما الذي ينتظره العالم أكثر من هذا الذي يحدث، كي ينتهي تماماً، مرةً واحدة، ودون رجعة!
■ ■ ■
إني أفهمها؛ الحشرجة في صوت الرجل الذي يقف على باب خيمته التي تحترق ويحمل ابنه المقتول للتوّ بين يديه، ولا يستطيع إكمال جملته. لديّ الأنين نفسه كل يوم، والحلق ذاته الذي يتردد فيه الصوت على النحو الذي يريد أن يصرخ فقط ليقول إن صوت النحيب أعلى من صوت القذائف.
■ ■ ■
الأمس كان فاجعاً، اليوم يبدو هلاكاً، غداً... قد لا يكون هناك غدٌ.
■ ■ ■
في كل مرّة مشيت في سوق دير البلح، تذكرت مجزرة سوق جباليا في الأيام الأولى للحرب، وباتت مسألة أن يقصف السوق وأنا أمشي فيه هي مسألة وقت فقط. اليوم لم أذهب إلى السوق بسبب الإعياء الذي يلازم المرض، ومن المكان الذي أركب فيه يوميّاً كارة حتى النخيل ثم من طريق المعسكر عائداً إلى الزوايدة، قصفوا الناس في منتصف السوق بصاروخ من طائرة الزنانة؛ صاروخ صغير صحيح، لكنه ترك 9 شهداء حتى الآن وعشرات الجرحى.
■ ■ ■
أمام ثلاجة الموتى في مشفى صغير بعد ثلاثة أشهر من الحرب، جلبوا مجموعة شهداء، من بينهم طفلة في السابعة، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها كلمة مجهول على كفن. كل يوم قبل أن أنام أخترع لها اسماً، وأقرأ لها قصة، وأشاهد مرّةً أخرى، كل ليلةٍ، إغماضتها من جديد.
■ ■ ■
أقرف شعور بالحياة؟ التعاطف المبني على شفقة.
■ ■ ■
«يتم وزن الأشلاء، كل 70 كيلو شهيد»
شفت هذا المنشور في كل أرجاء فايسبوك، هل تعتقد أننا نضع الميزان ونزن الشهداء فعلاً، وإذا وصل إلى 70 كيلو، فإننا نعتبره شهيداً مكتملاً فندفنه وهكذا؟
حتى الكناية فيها تمييع عجيب لقدرتنا على وصف المجزرة. نحن بلا أدوات، نحن نحفر في الذي يدغدغ، لا بالذي يبشّر بأننا على قدر ما يحدث. عار.
■ ■ ■
الشهيد الـ12 الذي نتعرف إليه من جيراننا في الشجاعية بعد 12 ساعة من المجزرة فجر اليوم. لديهم أسماء وكل واحد منهم لديه قصته، وكل قصّة لديها خصوصيتها التي تكفي وحدها لتكون عامل بناء للمدن، لا لهدمها.
■ ■ ■
لا نحبّ الحياة فقط، نحن نعرف كيف نعيشها. لسنا منفصلين عن العالم، بل هو المنفصل عنّا. نحن من الأرض التي لن تتوقف عن أن تنجب وتعمل وتحبّ. وإذا سألت طفلاً من أطفالنا عنّا سيقول لك إن لدينا طريقتنا في الحياة، وسيكون عليك أن توافق عليها.
■ ■ ■
هناك مشهد على الأرض يتبع المجزرة كل مرّة، يقف الناس كتفاً بكتف وهم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه. حدثت المجزرة مرّة أخرى، ما الذي تفعله من الخارج؟ هل تبكي؟ توقف عن البكاء وانزل على الأرض، كتفاً بكتف، واجعل صوتك لمن ضحوا للتوّ، واحمل دمهم في دمك، واصرخ، واجعل صراخك في وجه العالم كلّه، قد يوقظ صوتك أحداً.
■ ■ ■
«إذا كان لا بد أن أموت
فعليك أن تعيش أنت
لتروي قصتي»
■ ■ ■
الحشرجة التي
في نحيب الرجل الذي أذهب
لأعزّيه،
وأعود
وأنا الميّت.
■ ■ ■
يركض
يركض
لا يريد لأحد أن يسبقه
يحاول إيقاف السيارات في الشارع العام
يريد أن يصل
لكنه لا يتوقف عن الركض أيضاً
الرجل نفسه لاهثاً يدخل في صمت عجيب
ودموعه تنهمر مثل شلال على وجنتيه
الرجل الستيني نفسه
الذي يخشى أن يسبقه أحد في احتضان ابنته
التي استشهد زوجها للتوّ
ولم يصلها خبره بعد.
■ ■ ■
له عينان لوزيتان
وأربعة أسماء له، نناديه بها
عمره أربع سنوات فقط،
في الأولى كان الولد المدلل
في الثانية كان مشاغباً
في الثالثة كان يتيماً
وفي الرابعة، مات.
■ ■ ■
كل يوم، أحمل حصتي من العار وأخرج!
أقول للناس: هل تشترون 2400 سهم من الفضيحة؟
لديّ أوراقٌ وطابو أخضر
يثبتُ أن هذا العار لي!
لكن العابرين يغذّون السير،
وفوق ظهورهم أكياس سوداء ومستندات!
ماذا أقول لأنيس غنيمة، إذا قُتل في مخيم البريج؟
لقد قضيتُ قبلك، ولم أتبرع بكيلو سكّر،
يكسرُ مرارةَ موتكم،
وبطانية يسحبون بها الأشلاء!
هذا العارُ ملكي، يا أنيس
ولديّ طابو أخضر يثبت ذلك!
لكن فلسطين ستحيا
كزهرة مستحيلةٍ فوق صخرة!
* مخيَّم المغازي/غزَّة