هي تطبيقات وصفها مركز حماية وحرية الصحافيين، وهو بين أقدم وأعرق المراكز المختصة محليا بأنها سالبة للحريات العامة ولحريات التعبير حصرا. لم يعلن الوطني لحقوق الإنسان بصفته الذراع أو المؤسسة المختصة في الدولة بمراقبة الحريات العامة في البلاد موقفا محددا من تأثير قانون الجرائم الإلكترونية على حرية الرأي والتعبير.
لكن المركز لديه ملاحظات ومحاضر وشكاوى وليس من وظيفته الإعلان بقدر ما أن واجبه الإداري تسجيل الرأي المختص لدى دوائر صناعة القرار. وعندما تعلق الأمر بالتطبيقات الفعلية لقانون الجرائم الإلكترونية وأثرها، لفت المركز الوطني الأنظار عندما تضمن تقريره السنوي النهائي بعض الملاحظات إثر تسليمه رسميا بالقصر الملكي أولا ولرئاسة الوزراء ثانيا.
قانون «حمال أوجه»
المركز هنا على نحو أو آخر وجد بأن مجمل الصخب والنقاش في ملف الحريات العامة في البلاد يتقدم بحصة لا يستهان بها تحت عنوان الجرائم الإلكترونية حصرا. السبب حتى برأي الناشط الحقوقي البارز عاصم العمري كما شرح الأمر ليس فقط نصوص ذلك القانون حمال الأوجه، والتي صنفت مبكرا بأنها متعسفة بل الإخفاق في تقديم ضمانات حكومية ورسمية قيلت للرأي العام علنا بان لا يتم تطبيق تلك النصوص في مقاربات حرية التعبير أو الرأي الآخر. وهو الأمر الذي يحصل عكسه برأي العمري وأخرين من النشطاء.
الأصل في قانون الجريمة الإلكترونية برأي المحامي والناشط ولخبير محمد طقاطقة ضبط إيقاعات الاعتداء على حقوق وكرامات المجتمع على منصات التواصل الاجتماعي، لكن الانتقال الى المستوى الإجرائي قد يؤشر على أن عملية الضبط هذه تحتاج لضوابط بالمقابل.
يتذكر الجميع في جلب جدل حريات التعبير على المنصات النشطة للأردنيين رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة وهو يلتزم علنا بأن لا تطبق حكومته القانون إلا على من يسيئون استخدام منصات التواصل، بمعنى التجاوز والتعدي والمخالفة.
لكن الرئيس الأسبق للمركز لوطني لحقوق الإنسان السفير موسى بريزات كان من أوائل الذين حذروا من هوامش تسمح بمنع الرأي والرأي الآخر وتحرم الأردنيين من قيمة مألوفة باتجاه الاعتدال باستخدام النصوص، فيما يحذر خبراء آخرون بأن غياب ضمانات تطبيق نصوص هذا القانون توفر أرضية خصبة للخشية من أن يستخدم ضد الخصوم السياسيين وأصحاب الرأي.
لا توجد فواصل تشريعية ولا بروتوكولات تعريفية ضامنة لأن تستخدم النصوص أو لا تستخدم لمطاردة الرأي السياسي، والناشط العمري كان من أوائل الذين حذروا وعبر»القدس العربي» من مسألتين أساسيتين في تطبيقات الجرائم الإلكترونية.
الأولى مساحات التأزيم والخلاف والتجاذب بين مكونات وشرائح المجتمع التي توفرها النصوص المطاطة للقانون والتي تجمع أحيانا بين الحبس والغرامة المالية الضخمة في العقوبات فيما يوفر التشريع بالنص آلية لاصطياد أصحاب الرأي المستقل أو الخصوم السياسيين.
الثانية هي دفع نفقات وموارد وإشغال كوادر في الجهازين الأمني والقضائي جراء اتاحة الفرصة أمام جميع المواطنين بمتابعة ما يسمى بالجرائم الإلكترونية حيث لا محاكم مختصة بعد ولا قضاة متفرغون وعشرات الشكاوى التي تسجل يوميا ويلزم القانون السلطات بالتحقيق فيها ما يعني هدرا إضافيا في المال والعناصر البشرية كان يمكن الاستغناء عنه بطبيعة الحال لأن الكثير من المخالفات يمكن متابعتها بواسطة بقية التشريعات وأنظمة ولوائح بعض القوانين مثل قانون العقوبات الشامل.
التوقيف الإداري
وعليه؛ يتخذ الجدل والنقاش حول تطبيقات قانون الجرائم الإلكترونية منحنيات خشنة وصعبة وحمالة أوجه أحيانا، والناشط الإسلامي المعروف خالد الجهني وقبل اعتقاله لأكثر من شهرين بذريعة شكوى إلكترونية، كان قد تحدث عن قناعته بأن الجرائم الإلكترونية قانون متخصص بالقمع السياسي بالمقام الأول. والسلطات الإدارية احتجزت كثيرين بسببه لأن الأمر لا يقتصر على مراقبة المنصات ولا على تجاوزات الأفراد ضد بعضهم بل تم توفير مسارب خاصة أما لملاحقة أو مساءلة أو الضغط على نشطاء سياسيين وأصحاب رأي.
تجاهلت الحكومة أسبوعا تلو الآخر سلسلة دفوعات ومرافعات حقوقية تندد بالكمائن والمطبات التي يقترحها تطبيق قانون الجرائم الإلكترونية. وبعدما أصبح التطبيق عنصرا جاذبا لاصطياد بعض أصحاب الرأي والنشطاء السياسيين لفت أنظار المنظمات الحقوقية الدولية المهتمة والمختصة، والتي بدأت تنظر لقانون الجريمة الإلكترونية الأردني كونه من الأسس في معادلة تراجع الحريات العامة الكبير في البلاد. ونشرت ضد القانون منظمة حريات الصحافيين وتحدثت ضد تطبيقاته منظمة «هيومن رايتس ووتش» وخصصت لجنة حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي مذكرة أو مطالعة بالخصوص أرسلتها للحكومة الأردنية.
المنسق العام لملف الحريات في البرلمان الأوروبي يبحث عن الموضوع، والتقرير السنوي الخاص بحقوق الإنسان في مقر وزارة الخارجية الأمريكية يستمع لبعض الخبراء الأردنيين وفكرة الضمانات بالعبور بالقانون أخفقت أو خرجت عن سكتها.
كل تلك المنظمات والكثير من المرافعات الداخلية واحدة منها بتقييم ودراسة القاضي والحقوقي البارز الدكتور لؤي عبيدات تجاهلتها الحكومة عندما تحالفت مع مجلس النواب السابق، وأقرت الصياغات المتشددة التي وردت في القانون وان كان الأهم برأي عبيدات وأقرانه هو انعكاسات حتمية لا يمكن إنكارها لتطبيق نصوص ذلك القانون على أولا سقف الحريات العامة في البلاد، وثانيا على الأحكام والمرجعيات الدستورية التي تنص على ضمانة حقوق التعبير للمواطن الأردني.
في مطالعة مبكرة لها قالت البرلمانية والناشطة السياسية البارزة الدكتور رولا الحروب بأنه اليوم وفي مشروع القانون، لا سيما في المواد من 15-19 ثم المواد من 25-39 وهي المواد التي تطال حرية التعبير بشكل مباشر، تظهر نوايا غريبة لا تمت بصلة إلى المرحلة التي وعدتنا بها منظومة التحديث السياسي، فالعقوبات مبالغ بها ولا نظير لها في تاريخ الأردن الحديث، بل وربما لا نظير لها في العالم. وباطلالة سريعة- أضافت الحروب- على تلك العقوبات التي أتى بها القانون لمن يجرؤ على التعبير عن رأي أو توجيه نقد، تطالعنا جملة من العقوبات تطبق مجتمعة وليست بديلا عن بعضها البعض، بل إن بعضها تطبقها المحكمة من تلقاء ذاتها ودونما حاجة إلى أن يطلبها المدعي العام أو محامي المشتكي.
شرحت الحروب: مشروع القانون خطير، وخطير جدا، لأنه يدس السم في العسل، ويستخدم المواد من 3- 14 ليخفي الكارثة التي تضمها المواد من 15- 39 وهو ما يمكن أن يخدع البعض من حسني النية الذين سينظرون إلى بداية القانون ويغفلون عن وسطه ونهايته.
بدورها تحدثت الناشطة رشا يونس عن «مواد مبهمة» في نصوص القانون واعتبرت قانون الجرائم الإلكترونية الجديد لن يؤدي إلا إلى مفاقمة الممارسات القمعية ويزيد الرقابة على حرية التعبير. وخلصت يونس إلى أنه ينبغي للسلطات الأردنية أن تحمي الحقوق الرقمية للجميع، ويشمل ذلك حماية حرية التعبير وخصوصية التواصل على الإنترنت والخطوة الأولى تكون بإبطال قانون الجرائم الإلكترونية لعام 2023.
كانت الباحثة الحقوقية زينب إسماعيل قد لخصت ملاحظات نحو 19 منظمة أردنية وأجنبية بخصوص ذلك القانون الذي أثار جدلا واسعا. وقال تقرير الملخص انها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الأردنيون مشكلات سببها توجّه السلطات إلى قمع الخطاب وقطع وصولهم إلى منصات التواصل وآخر تمظهرات هذا النهج كانت حجب تطبيق «تيكتوك» في كانون الأول/ديسمبر 2022 والمستمرّ حتى اليوم، وحجب موقع الحدود الساخر.
بدوره دعا «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان» وهو منظمة مستقلة مقرها الرئيسي في جنيف، دعا السلطات الأردنية إلى إنهاء جميع القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير في المملكة، بما في ذلك إلغاء جميع النصوص القانونية التي قد تُستخدم لتقويض الحريّات، لافتا إلى أنّ الإجراءات والممارسات والقوانين المقيّدة لحرية الرأي والتعبير «خلقت حالة مستمرة من الرقابة الذاتية لدى المدونين وأصحاب الرأي، إذ يتجّه عددٌ كبير منهم إلى عدم التصريح علانية بآرائهم في القضايا العامة، خوفًا من التعرّض للملاحقة أو التضييق».
مقابل تلك الملاحظات الموثقة ما حصل مؤخرا هو أن السلطات في المنظومتين البيروقراطية والأمنية قررت فيما يبدو أنها مضطرة لإسقاط الضمانات التي منحت سياسيا وحكوميا عند إقرار القانون بان لا تستخدم نصوصه ضد الرأي الآخر والمعارضين السياسيين، حيث أن الرغبة في مواجهة بعض الأصوات والأقلام وأيضا النشطاء دفعت الحكومة لاستعمال القانون في أكثر من حالة وضد أصحاب رأي سياسي.
ضد خصوم السياسة
لفتت الأنظار هنا مؤخرا عدة حالات قد يكون أبرزها عقوبة السجن لمدة عام للكاتب الصحافي البارز أحمد حسن الزعبي تحديدا، والتي أسهمت في لفت أنظار حتى الدول الأوروبية الصديقة وبعض المنظمات العالمية لحقوق الإنسان لمساوئ ومثالب نصوص قانون الجرائم الإلكترونية.
استخدم القانون أيضا ضد نشطاء سياسيين. والمحامون يتحدثون عن استخدامه ضد شباب أردنيين كثر بتهم لها علاقة بدعم الكراهية والإرهاب. وما بدا عليه الأمر أن نشطاء عدة تم استدعائهم أيضا بسبب تغريدات إلكترونية ومن بين هؤلاء الناشط البارز الإسلامي خالد الجهني الذي تحدث عن توسع في الاستدعاءات الأمنية ومضايقات بسبب النشاط السياسي قبل توقيفه شخصيا لمدة شهرين بدون تهمة محددة، فيما أوقف أيضا ناشط نقابي بارز هو المهندس ميسرة ملص وبدون تهمة محددة أيضا.
لا بل تحدث العمري وحقوقيون غيره عن تبدل كبير وتوسع في ظاهرة التوقيف الإداري تحديدا والاستدعاء معتبرا بان سلسلة قوانين تساهم في تغذية سيناريو تكميم أفواه الأردنيين عموما من بينها طبعا قانون الجريمة الإلكترونية وقوانين العقوبات وغيرهما، فيما يرى العمري بان ذلك التشدد الإداري لعقوبة التوقي، يؤدي إلى تأزيم المجتمع وإنتاج مخاوف قد لا يوجد لها مبرر توحي بالتعسف باستخدام النصوص القانونية له علاقة بسيناريو مشاريع سياسية ما يتم التحضير لها ولا تعجب الأردنيين.
وصلت ملاحظات لمستويات رفيعة في القرار وتم تذكير المركز الوطني لحقوق الإنسان مؤخرا بأن تعهدا ما صدر علنا عند إقرار قانون الجرائم الإلكترونية باحتمالية مراجعته أو بعدم وجود ما يمنع مراجعته بعد فترة من تطبيقه. ولم يعرف بعد ما إذا كان قرارا بمراجعة القانون قد اتخذ بعد لكن ما يسربه ويهمس به نشطاء هو أن ملف هذه المراجعة المقترحة ومن باب التذاكر موجود الآن على سطح طاولة الوطني لحقوق الإنسان.
ليس معروفا بعد ما الذي يعنيه ذلك بصورة محددة. لكن قانون الجرائم الإلكترونية وبوضوح قل شاكروه وزاد منتقدوه ليس داخل الأردن فحسب ولكن خارجه أيضا.