إذًا؛ هل سيلتزم الكيان المغتصب وحكومته العنصرية بأي اتفاق يتم التوصل إليه من خلال وساطة تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية، أم أنه سينصاع في نهاية المطاف لمطالب المقاومة الإسلامية في لبنان بفعل ما قامت وستقوم به في ميدان المواجهة والتصدي؟
الحديث عن اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان لمنع انزلاق المنطقة نحو حرب شاملة، تسارعت وتيرته بعد تأكيد رئيس البرلمان اللبناني الأستاذ "نبيه بري" أن بيروت تقوم بمساعٍ جدية مع أطراف دولية بينها واشنطن للجم التصعيد "الإسرائيلي"، مشددًا على أن الساعات الـ24 المقبلة ستكون حاسمة في نجاح المساعي أو فشلها للتوصل إلى حلول سياسية، قبل أن تتوالى بعد ذلك جملة التصريحات والأنباء التي تؤكد توجه الولايات المتحدة الأمريكية لبلورة مثل هذا الاتفاق بجهود إقليمية ودولية في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تعقد اجتماعاتها العادية بدورتها التاسعة والسبعين في نيويورك.
الاتفاق؛ وفقّا إلى ما سرّب والإعلان عنه من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، يتضمن عددًا من النقاط أبرزها:
- أن يتفق على هدنة مؤقتة تتضمن وقفًا لإطلاق النار لمدة ثلاثة أسابيع.
- يتم خلال هذه المرحلة العودة لتنفيذ بنود اتفاق القرار 1701 المتخذ من قبل مجلس الأمن في آب 2006، وقيام واشنطن وباريس بمهمة التفاوض مع حزب الله.
- تشهد هذه الهدنة التوصل لاتفاق يوقف القتال في غزة استنادًا للمبادرة التي طرحها الرئيس الأمريكي "جو بايدن" في أيار الماضي، ولا سيما صفقة تبادل الأسرى.
- عودة مستوطني الشمال إلى مستوطناتهم شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة.
هذه البنود جميعها دون استثناء وربما غيرها، تحتاج إلى الكثير من الإمعان والتوقف عند مضامينها، بل لا بد من وضع خطوط حمراء وليس فقط خطًا واحدًا، من أجل تفنيدها، بهدف الوصول لمعرفة مدى جدية النوايا والاتجاهات والمسارات لمن يسمى بالوسيط الأمريكي والكيان "الإسرائيلي" في ظل الإرادة الدولية والإقليمية المتسمة بازدواجية المعايير والتبعية للمشاريع الصهيونية والمسلوبة في كثير من الأحيان.
النقطة الأولى التي لا بد من التوقف عندها تتعلق بالوسيط الأمريكي الذي ما زال حتى يومنا هذا يمارس المناورة والمراوغة في ما يتعلق بوقف العدوان الصهيوني على فلسطين ولبنان على حد سواء، بالتزامن مع حرصه على إغداق السلاح على هذا الكيان وتوفير الغطاء السياسي له، لذلك فإن إدارة بايدن تسعى عبر هذه المبادرة إلى تحقيق عدة أهداف أبرزها، عدم تصاعد الصراع على مستوى المنطقة مما يجعلها مضطرة للانخراط فيه لدعم الكيان قبل موعد الانتخابات الرئاسية والخشية من تعرض نفوذها ومصالحها للخطر، فضلًا عن رغبة بايدن في إنهاء فترة ولايته دون الغرق في مستنقع صراعات المنطقة وبما يدعم الحملة الانتخابية لبديلته "كاميلا هاريس"، إضافة لاستشعار الإدارة الأمريكية خطورة وضع الكيان بعد قدرة حزب الله على احتواء التصعيد والانتقال لمرحلة التصعيد التدريجي عقب استخدام أسلحة أكثر تقدمًا مثل الصواريخ الباليستية "فادي 1و2و3"، و"قادر"، وطائرات مسيرة من طراز "الشييطت13".
أما النقطة الثانية وهي طرح هدنة مؤقتة لمدة ثلاثة أسابيع، تعيدنا بالذاكرة لما حصل في عدوان تموز 2006م، عندما جهدت واشنطن لإطالة عمر العدوان الصهيوني على لبنان لتحقيق مصالح مختلفة بما فيها رسم معالم "الشرق الأوسط الجديد" من خلال تغيير موازين القوى في المنطقة وفق تعبير وزير الخارجية آنذاك" كونداليزا رايس"، كما أن هذه الهدنة الطويلة للتوصل لاتفاق، تجعلنا أمام إعادة مسار ما حصل في غزة من عدم إلزام الكيان بأي اتفاق من جانب، ومن جانب آخر منحه فترة أربعة أسابيع لالتقاط الأنفاس أو ما يمكن تسميته "استراحة المقاتل" لإعادة إنتاج عدوان جديد على لبنان بعد فشل تحقيق الأهداف التي كان يمني نفسه بها، من خلال مجزرتي الثلاثاء والأربعاء، واغتيال القادة، وارتكاب المجازر والإبادة الممنهجة.
النقطة الثالثة في حال افتراضنا بحسن النية، اضطرار الكيان للموافقة على الانخراط في هذا الاتفاق، هل ستطبق حكومة الاحتلال بنود قرار 1701، وتوقف اعتداءات جيشها وخروقاته المتكررة للأجواء والسيادة اللبنانية قبل المطالبة بانسحاب الحزب لما بعد الليطاني.
النقطة الرابعة وهي من النقاط المهمة في هذه المبادرة، فهي من ناحية أجبرت الأمريكي والصهيوني على حد سواء، على الاعتراف بأنه لن يكون هناك أي فرصة لفك الارتباط بين جبهتي غزة وجنوب لبنان إلا بوقف العدوان على قطاع غزة، ولكن من جانب آخر طرحت شكوكًا وتساؤلات، منها لماذا لم تلزم واشنطن نتنياهو باتفاق مشابه مسبقًا؟ ولماذا منحته الفرصة لفرض شروط وعراقيل جديدة في أثناء مسار المفاوضات؟ كل ذلك يجعلنا أمام مناورة جديدة لن يسمح حزب الله بحصولها، تتمثل في السعي الأمريكي لتهدئة جبهة لبنان ومحاولة فك ارتباطها مع غزة عبر تنفيذ مرحلة صفقة تبادل الأسرى أي المرحلة الأولى فقط من الاتفاق، وهو ما سترفضه المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
في ما يتعلق بالنقطة الخامسة وهي إعادة المستوطنين لمستوطناتهم في شمال الأراضي الفلسطينية، فإن هذه النقطة لن تمنح مجانًا للكيان الصهيوني وحكومته التي أدرجت ذلك كهدف رابع ضمن عملياتها العدوانية، دون التوصل لاتفاق ينهي العدوان على غزة.
هذه النقاط المسرّبة والمعلنة، وتفنيداتها، كل منها تشكل بحد ذاتها لغمًا وسط حقل من الألغام، وعليه يمكن التأكيد أن هناك مجموعة من التحدياتقد تعيق الوصول لإبرام هذا الاتفاق، أهمها:
1. عدم جدية واشنطن في وقف التصعيد والعدوان الصهيوني على غزة ولبنان، ومنحها الكيان فرصة للمناورة والغدر بما في ذلك ما أعلنته وزارة الحرب في بيانها بالتزامن مع طرح المبادرة، عن أن الاجتياح البري للبنان أمر يعود إلى "الإسرائيليين".
2. غياب أي إرادة صهيونية لوقف العدوان على لبنان في ظل وجود حكومة برئاسة نتنياهو قد تنهار مع أي حل سياسي، وما أعلنته صحيفة "إسرائيل اليوم" من أن رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو فوض وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر بإخطار واشنطن أن "إسرائيل" مستعدة للتفاوض بشأن لبنان ووقف إطلاق نار مؤقت، ليست سوى مناورة صهيونية لكسب الوقت وتحميل المقاومة في ما بعد مسؤولية فشل التوصل للاتفاق.
3. القرار 1701 هو قرار يوجب تنفيذه ضمن الكيان ولبنان، وليس فقط يستخدم الجزئية الخاصة بلبنان، وهذا الحشد العسكري البري مقابل الحدود والتلويح باجتياح بري يمثل أكبر خرق لهذا الاتفاق، سواء كان هذا التحشيد للضغط السياسي أو للاجتياح الفعلي الذي سيكون بالنسبة لجنود ودبابات قوات الاحتلال كارثيًا أكثر بكثير مما شهدوه في "وادي الحجير" آب 2006، وهو ما وعد به الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله.
4. لا يمكن إيقاف جبهة الجنوب اللبناني إلا بوقف العدوان الكامل على غزة، والرهان على تفريق قوى محور المقاومة من قبل واشنطن و"تل أبيب" رهان في غير محله.
5. عودة المستوطنين لمستوطناتهم سيبقى حلمًا وهدفًا بعيد المنال ما لم ينهِ العدو عدوانه على غزة وجنوب لبنان.
بطبيعة الحال، ما حصل خلال الأيام السابقة، من استعراض القدرات العسكرية لحزب الله كان آخرها وصول صاروخ "قادر1" لمقر الاستخبارات العسكرية الصهيونية في "غليلوت" الذي لا يبعد سوى 1,5 كلم عن "تل أبيب"، وتفعيل الدفاعات الجوية للمقاومة ضد بعض الطائرات الحربية في سماء لبنان، كان له تأثيره العسكري بأبعاد سياسية، فما يسعى لتحقيقه الأمريكي والصهيوني من خلال السياسة تحت ضغط النار، يشبه تمامًا حلم أبليس بالجنة، فالاتفاق - رغم ضآلة مؤشراته - إن تم التوصل إليه، لم ولن يكون بكرم أمريكي، بل نتيجة تضحيات المقاومة وتمسكها بمواقفها وثقتها بقدرات عناصرها وقيادتها والتفاف الحاضنة الشعبية حولها.