في مكان ما من هذا العالم - مكان بعيد عن بلادنا وهادئ بالمقارنة بها - التقيت بشاب أفغاني، وحين أخبرته أنني من لبنان لمعت عيناه واتسعتا وعاجلني بعبارة «حزب الله...ما شاء الله»، وأتبعها بابتسامة عريضة. هو لم يكن يعرف تعقيدات لبنان وطوائفه ولم يكن يدري ما هي طائفتي. كان مجرد رجل ينتمي إلى عالم المستضعفين وجد أمامه شخصًا من بلد فيه أكبر أمثولة لجماعة تتحلق حول مقاومة تناصر المستضعفين.يوم الجمعة الماضي، هذه المقاومة وجماعتها فقدت أباها.
هو لم يكن أبانا كجماعة فقط، بل كان، ولا يزال، أكثر من ذلك بكثير. فحجم تأثيره كإنسان ورمز أكبر بكثير من حجم جماعة صغيرة تسكن جزءًا من أرياف لبنان والضاحية الجنوبية من عاصمته. هو بطل وثورة في كابُل كما في كاراكاس. ولكنه بالنسبة لنا كان أبانا؛ بكل ما يعنيه هذا من تبعات على معنويات ومشاعر أفراد هذه الجماعة. فانعكس الفقد شعورًا باليتم والانكشاف، بالإضافة إلى ما بان من ارتدادات على معنويات الجمهور الأوسع للمقاومة. أتى هذا الاغتيال ليتوج مجموعة من الضربات الأمنية القاسية - بدءًا بعملية البايجر - والتي لو وقعت على جيوش نظامية لرأيناها تتضعضع وربما تنهار. ولكن ما يهم في هذه المقالة هو وقع هذه الضربات على جماعة المقاومة في لبنان، والتي نصطلح عليها عادة بجمهور المقاومة. ثبات المقاومة شيء مثير للإعجاب وربما الذهول، ولكنه ليس غريبًا على مقاومة بتاريخ ونجاحات المقاومة الإسلامية في لبنان. أمّا ثبات الجماعة وصمودها فهي من الأمور التي يحاول العدو أن يكسرها، بشكل ملحّ، في هذه الحرب، وقد يكون هذا الأمر أكبر امتحان في تاريخها. ولكنّها عصية على الكسر.
فبكل بساطة، القيم التي تحملها هذه الجماعة منبثقة من أصل يرفع من شأن التضحية إلى حدّ القداسة. منذ عقدين تقريبًا بدأت النخب المنخرطة في المشروع الأميركي في المنطقة باستهداف شتّى مناحي عادات هذه الجماعة. ولكن التركيز انصب على الطقوس الدينية ولا سيّما إحياء عاشوراء. وبينما ركض الكثيرون من أفراد الجماعة - بحساسية لبنانية مفرطة - ليلعنوا الطائفية المقيتة، حقيقة الموقف كانت في مكان آخر. لقد أفهم المشغل الأميركي هذه النخب أن هذه المقاومة تستعمل طقسًا دينيًا بشكل يمكّنها من تعبئة وتحشيد مريديها بطريقة تصنع جماعة تحمل قيمًا تنسج بيئة مناسبة لتمدد المقاومة واشتداد عودها. كان انطلاق هذه الهجمات إشارة إلى أن أعداء المقاومة قد شخّصوا نقطة القوة هذه.
أمّا الهدف، فهو باستمرار توهين الطقس لاجتثاث القيم التي تزرعها المقاومة من خلاله. وعلى مدى عقدين من الزمن لم تنجح هذه المحاولات، وكان للشهيد سماحة السيد حسن نصر الله رضوان الله عليه دور أساسي في هذا الأمر. لسنا هنا في معرض ذكر تركيزه على إحياء المناسبة وانكبابه على متابعة تفاصيلها والمشاركة فيها خطيبًا مهذبًا في لياليها، ولكن انطلاقًا من هذا الجهد يمكننا أن نستكشف دوره في صناعة قيم هذه الجماعة في العقود الثلاثة الماضية. وهو لم يسنّ هذه القيم ودائمًا ما كان يشدد على دور الثورة الإسلامية فيها ومؤسسي الحالة الإسلامية في لبنان. ويمكننا فهم تشديده على نشر عبارات ومفاهيم معينة بين جمهور المقاومة حتى ترسخت وتراكمت على شكل قيم مختلفة. فكيفما التفتنا إلى خطبه سنجد مجموعة من العبارات التي كان يشدد عليها حتى أصبحت مع الوقت شعارات لا يمكن لأي مريد للمقاومة ألا يؤمن بها. حتى أن الكثير من حركات المقاومة في المنطقة اتخذتها شعارات، أو مناهج حتى في حال من لم يتبنوها حرفيًا. وبشكل صلب أصبح الانتماء إلى جماعة المقاومة مشروطًا بتبني هذه القيم التي ساقنا الشهيد السيد إليها.
أذكر جيدًا أنّ أحد مثقفي بلاط خليجي ما، كتب مطولات ليثبت أن الإمام الحسين (ع) لم يقل «هيهات منا الذلة»، ورابط على جهوده سنوات طويلة لسحب الشرعية من اقتباسات الخطاب العاشورائي التي أصبحت أساسًا تُبنى عليه قيم المقاومة. وهو قام بهذا المجهود الجبار - ليته تفرغ للتدريس الجامعي بالحماسة نفسها - لأنه فهم أن ما فعله شهيد المقاومة الأقدس هو تسييل هذا الخطاب في سبيل توسيع جماعة المقاومة بما يتخطى جموع المؤمنين إلى فضاء المستضعفين الأوسع. فقد كان بإمكانك أن تكون غير مؤمن أو ملحدًا أو يساريًا لينيني الهوى أو ستاليني القناعة وأن تردد «هيهات منا الذلة» معه.
كان يرينا، بشكل تراكمي وتدريجي، أنّ المرء لا يجب أن ينتمي إلى المذهب الشيعي ليرى الحسين مقاومًا في تلال جبل عامل أو في أي نقطة من جغرافيا غرب آسيا. وكان يقودنا رويدًا رويدًا لنتمسك بمجموعة قيم هي في جوهرها سر قوة المقاومة، أصلها في طقس ديني ولكن فرعها يستظل به كل المستضعفين. وبشكل أو بآخر استنسخت الكثير من حركات المقاومة في المنطقة هذه القيم، كقيم ذهبية تُبنى حولها جماعاتها الخاصة. وبقي سيدنا الشهيد الحارس الأول لهذه القيم، يحاضر فيها من دون كلل أو ملل في كل مناسبة. ولأن من قيم جماعة المقاومة تحمّل التضحية والاستعداد للبذل في سبيل النصر، لن تنكسر هذه الجماعة، وستبقى تؤمن برجالها المقاتلين على الجبهات؛ تؤمن بعزيمتهم وصلابتهم وإعدادهم لهذه الحرب.
ولكن الأكيد أن الأيام المقبلة ستحمل المزيد من الجهود لافتعال الصدمة والتوهين علّ هذه الجماعة تنفكّ عن قيمها. سنرى تشكيكًا بالحلفاء المقاومين من إعلام النفط - كما فعل هذا الإعلام مع السيد الشهيد على مدى عشرة أشهر. وسنرى صفوف الكتبة و«المثقفين» يتحدثون عن ضعف في المقاومة، تارة على مستوى القيادة وطورًا على مستوى الكوادر. ومن ثم سيخرجون جميعًا علينا يتبنون تسريبات الأجهزة الأمنية الصهيونية في ما يخص الاختراقات وتنفيذ العمليات الأمنية. وفي النهاية كله يهدف إلى سلخ القيم بشكل عاجل من أفراد جماعة المقاومة. فيصبح ديدن قولهم «كيف تلتزمون قيمًا حلفاؤكم لم يلتزموا بها؟» و«كيف تلتزمون قيمًا قادتكم لا يلتزمون بها؟».
في هذه اللحظات العصيبة، تصبح عبارات مثل «لن نتخذ الليل جملًا» أو ««ما تركتك يا حسين»، ذات بعد قيميّ حقيقيّ. وهي عبارات حوّلها سيدنا الشهيد إلى شعارات تتخطى الدين والمذاهب. فنرى جماعة المقاومة تجاهر بأنّها ستكمل في هذه الحرب حتى تعلن المقاومة النصر. علمًا أن كل من منها هو إما شهيد أو نازح أو معين على نزوح. هذه قيم زُرعت على مدى سنوات عبر جهد منهجي من سماحة السيد الشهيد وتحت إشرافه من خلال وسائط كثيرة تتبع أو تعمل في فلك المقاومة. والآن يرى العالم كله ثمارها على شكل جماعة صامدة وصابرة لا تخشى الإقدام على اتباع أصعب الطرق في سبيل الانتصار.
من سنن التاريخ أن لحظات غياب القادة هي اللحظات المفصلية في مسار الجماعات أو الدول، وما يتم تبنيه بعد غياب القائد أو الرمز هو ما سيحدد مستقبل ومصير هذه الجماعة على مدى عقود أو قرون آتية. ولذا كان القول في بداية هذه المقالة أنّه أكبر امتحان. فنحن اليوم أمام استشهاد أهم قائد في تاريخ هذه المقاومة، وكل المقاومات في منطقتنا. قائد أشرف على بناء قدرات المقاومة وعلى قيادة حروبها على مدى ثلاثة عقود، ولكن ربما الأهم بالنسبة لنا كجماعة هو أنه قائد ساهم في بناء أكثر وعينا وثبّت قيم المقاومة فينا. امتحاننا هو كيف نثبت على قيمنا المقاومة، وكيف نمنع عدونا وكتبته من اجتثاث التضحية والبذل من نفوسنا. امتحاننا في ألّا نفقد الثقة بأن النصر صبر ساعة وأن المقاومين القابضين على الزناد لم يتزحزحوا عن مواقعهم حزنًا وألمًا.
في المحصلة هذه الحرب لا تزال في بداياتها، ونحن لا يمكننا أن نتنبأ بمسارها ومفاجآتها. ولكنّنا كجماعة المقاومة لدينا يقين منبثق من التجربة على مدى أربعة عقود. يقيننا في صلابة المقاومين على الجبهات، ويقيننا بحكمة قيادة المقاومة في خوض مراحل هذه الحرب بالوتيرة التي تراها مناسبة. ونحن نسير على خطى النجاح في الامتحان.
غروب الجمعة الماضي تواصل معي ذاك الشاب الأفغاني ليخبرني بأنّه يشعر ببالغ القلق بسبب الأخبار التي تبثها منصات الإعلام. وفي اليوم الثاني، عند الرابعة بعد الظهر، أرسل رسالة يعلن فيها استعداده للقدوم إلى لبنان للمشاركة في القتال. هو طبعًا لن يأتي، ولكن هذا الشاب من كابُل أخذته الحماسة لأنه يشعر بأن هذه الجماعة هي الأمثولة الأجمل عند مستضعفي الأرض الذين يثورون في وجه أعتى الإمبراطوريات ويضحّون في سبيل غيرهم من المستضعفين وكأنّهم جسم واحد، ولأنه شعر في لحظة ما أن هذه الجماعة تحتاجه ليساندها ولو لفظًا. هو لم يكن يعرف أن أبانا زرع فينا قيمًا ستعبر بنا في الامتحان.
سيدنا وأبونا ترك فينا ما يكفي من قيم وإيمان لأن نستكمل درب الدفاع عن المستضعفين من بين المستضعفين. هذه حرب دخلناها معه ووراءه من أجل أن نؤدّي واجبنا والتزامنا تجاه أكثر شعب مستضعف في التاريخ الحديث، وسنكملها حتى ننجح في الامتحان. إذا ما بحثنا في معاجم اللغة العربية سنجد أن لكلمة العَلَم تعريفات شتى، فالعلَم هو الأثر والراية والجبل وسيد القوم والرسم في الثوب وما يُنصب في الطريق ليُهتدى به. وهذه الجماعة - بما فيها المقاومة القابعة في قلبها - هي علم المستضعفين.