اوراق خاصة

مسّنا بعضٌ من عبق الشهادة وأسرار النصر

post-img

محمد باقر ياسين

عندما يريد المرء أن يعبّر عن أي موضوع ينوي كتابته، يقوم باختيار بعض المصطلحات كي تعينه على إيصال رسالته التي يبتغيها. لكن المصطلحات كلها تقف عاجزة أمام التعبير عن المشاعر التي تختلج النفوس عند مشاهدة المقطع المصور الذي بثه، يوم أمس، الإعلام الحربي في المقاومة تحت عنوان "بعضٌ من عبق الشهادة وأسرار النصر"، والذي يشدّ الأرواح الصادقة النقية والوطنية لمتابعة كل ثانية منه.

من البداية حتى النهاية التي لا يريدها أي مشاهد أن تنتهي، وكل من شاهده إذا سألته سيقول لو أن هذه المشاهد تطول ساعات وساعات لنتعرّف إلى بعض ما جرى على الرجال الذين تركوا كل هذه الدنيا بمتاعها وزخارفها للدفاع عن اللبنانيين جميعًا وعن قراهم وذويهم من عدوٍ جبانٍ لم يُجيد سوى الغدر وسيلةً للتغلب على أجساد مقاومينا من دون أن يمسّ الروح المنتصرة حتمًا.

خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان؛ نزح العديد من المواطنين نحو أماكن أكثر أمانًا، حيث لم يكن من مكانٍ آمن من غدر العدو. وعلى ذلك شواهد عدة؛ منها المجازر التي ارتكبها العدو في بيروت والضاحية الجنوبية والجنوب والبقاعين والشمال ومناطق أخرى. فهذا العدو بغدره لم يميز أي منطقة لبنانية عن سواها، فكان يقصف ما يحلو له وبذرائع شتى واهية لا أصل لها. في تلك المرحلة وإلى يومنا هذا، هناك أسئلة كثيرة تبادرت إلى أذهان الكثيرين منا، ما كان حال المقاومين الذين كانوا يسطرون أروع الملاحم بوجه العدو؟ كيف كان نومهم وطعامهم؟ كيف كانوا يتحصنون من غدر العدو؟ كيف كانوا يخرجون ويواجهونه بكل عزمٍ وصلابة؟ كيف كانوا يستقبلون الشهادة؟ كيف كانت تنتشل أجسادهم الطاهرة؟، أغلب هذه الأسئلة وجدنا لها بعض الأجوبة في المشاهد التي بثها الإعلام الحربي للمقاومة.

يبدأ الفيديو بمشاهد مسارعة الإسعاف نحو عدة أماكن تعرضت لغارات جوية من العدو الإسرائيلي، ليظهر حجم الغدر والدمار الذي خلفته. وبعدها تظهر مشاهد تفطر القلوب لاستخراج جثامين الشهداء الطاهرة، والتي ظهر على بعضها آثار الجراح وحجم التضحية التي قدمها هؤلاء المجاهدون. فمع كل مشهد انتشال جثمان شهيد تتقطع القلوب وتشرد الأذهان إلى مجاهدين فقدناهم في هذه الحرب؛ فكل واحد من المشاهدين فقد عزيزًا، سواء أكان أبًا أم أخًا أو من بني عمومته وأخواله أم أقربائه من العائلة أم أصدقائه في القرية ومعارفه. فكل لقطة كانت تمسّ كل واحدٍ منا.

ينتقل بعد ذلك المشاهد إلى غرفة تحتوي على عددٍ من جثامين الشهداء مع خطابٍ مؤثر لقائد الشهداء والشهيد الأسمى سماحة السيد حسن نصر الله، وهو يقول: "إلى المضحين؛ بأبي أنتم وأمي ونفسي، كيف أصف حسن ثنائكم؟ وأحصي جميل بلائكم؟ وبكم أخرجنا الله من الذل"؛ مع خطابٍ آخر ومشاهد من تشييع بعض الشهداء، يقول فيه السيد الشهيد: "هؤلاء جنود الله المجهولون في الأرض المعروفون في السماء، لا يدافعون عن أنفسهم؛ بل يدافعون عن الأمة والوطن وقضايا الحق".

وفي مشاهد تتفطر لها القلوب وتتيه الأحرف والكلمات عن الوصف، حيث يظهر تشييع الشهداء مع مقاطع صوتية من وصاياهم، من دون ذكر صاحب المقطع الصوتي. وكل مقطع من المقاطع الصوتية أقسى وقعًا من الذي يسبقه، فمنهم من يتحدث عن العشق للقاء الله وشوقه لتلك اللحظة، ومنهم من يتحدث عن الهدف من المقاومة للمحتل وتوقه للنصر المؤزر. ومنهم من يتحدث عن أمّه وخوفه على قلبها الحنون. وهنا لا يمكن لأي شخصٍ يسمعها أن يتمالك نفسه أو ينجح بحبس دموعه التي تنحدر لا إراديًا على الخدود.

لتأتي المشاهد الأكثر إيلامًا وهي لمجاهدين داخل "النفير"، حيث تظهر حجم التضحية من مكان النوم الصعب- هذا إن كانوا ينامون تحسبًا لغدر العدو- بوقتٍ أغلبنا كان ينام على وسادة مريحة وعلى فرشة ملائمة. وإلى مشاهد الطعام المتواضع جدًا والشبه معدوم، خبزٌ يابس وعلبة من الحمص المطحون، يقوون بها على مجابهة العدو، في وقتٍ كان الناس يأكلون طعامًا غنيًا بأطباقه وخبزًا طازجًا.

أما المشاهد التي تثلج القلوب، والتي تشعر بالفخر والعزة الكرامة، مشاهد خروج المجاهدين لمواجهة العدو، وتجهيزهم لإطلاق الصواريخ دفاعًا عن الوطن.. مشاهد تشعرنا جميعًا بالعزة والفخر من جميل ما قدموه من التضحية والصمود والإباء بوجه طاغية من طغاة العصر. والأهم هو ما كان يقوله المجاهدون عن ثقتهم بالله وبحاضنتهم الشعبية وبيقينهم بالنصر المؤزر على العدو، ووصيتهم التي أصروا عليها وهي حفظ هذه التضحيات ومواصلة الطريق؛ مهما بلغت الصعاب.

ختامًا، مشاهد لمدة خمس دقائق مسّنا خلالها بعضٌ من عبق الشهادة وأسرار النصر، وكانت رحلة إلى عالمٍ ملكوتي تعرّفنا من خلاله إلى الشبان الذين بذلوا الغالي من أجل حفظ كرامتنا في لبنان والدفاع عن أرضٍ بُذلت لأجلها الدماء لكي تبقى محررة. خبرنا من خلال المشاهد صلابة وإيمان هذه الثلة التي أبت أن يسلب حريتها عدو غاشم، فقاومت وصمدت حتى الرمق الأخير، وكل أملهم كان النصر على العدو الإسرائيلي؛ فكان لهم ما أرادوا. وقد ألقوا على عاتقنا جميعًا حمل وصاياهم بالاستمرار بنهج مقاومة العدو، وهذا ما قام به أبناء الأرض بعودتهم إلى قراهم بعد انقضاء مهلة 60 يومًا.

بلدٌ لديه مثل هؤلاء المجاهدين ومثل هذا الشعب الأبي المضحي ومثل الجيش اللبناني المواكب لهم، لا بدّ أن يكون عزيزًا منتصرًا.. وبهذه الثلاثية لا بد أن نحفظ الكرامة ونصون الأرض.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد