خاص "موقع أوراق"- محمد الحسيني/ كاتب وإعلامي لبناني
يقول البروفسور جيفري ساكس الاقتصادي الأمريكي المشهور والخبير العالمي في التنمية المستدامة، في إحدى مقابلاته المتلفزة: "قادت الولايات المتحدة جهودًا مستمرة لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، وهناك 7 دول مستهدفة ضمن القائمة، ويحمل إدراجها الكثير من الدلالات، وهي: فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، وفي أفريقيا هناك ليبيا والسودان والصومال. وقد خاضت أمريكا حروبًا في ست منها بالنيابة عن إسرائيل، وما حصل في سوريا جاء تتويجًا لجهود طويلة الأمد بذلتها إسرائيل في سبيل إعادة تشكيل الشرق الأوسط على صورتها.. ولهذه الغاية أعدّ الأمريكيون وبنيامين نتنياهو بعد تولّيه رئاسة الوزراء في العام 1996 وثيقة سياسية أسموها "التغيير النظيف".
لقد بدأ العمل بهذا المشروع بكامل طاقته، بعد أحداث 9 أيلول 2011، وكانت حرب العراق الخطوة الأولى في هذا المسار. وغاية هذا "التغيير" الانفصال عن الحقبة الماضية المبنية على مبدأ "الأرض مقابل السلام"، والذي كان يقضي بموافقة "إسرائيل" على إقامة دولة فلسطينية بجوارها، والتحوّل إلى حقبة جديدة تمهّد لتطبيق مشروع "إسرائيل الكبرى" ومهاجمة كل من لا يوافق على ذلك بإسقاط أي نظام يعارض هذا المشروع". واليوم وبعد استكمال سلسلة الحروب المحدّدة خرج دونالد ترامب ليعلن أوان القطاف.
لم يكن إعلان ترامب مشروع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة ونشرهم، في مصر والأردن والمغرب والصومال وبونتلاند، "شطحة" جنون أو موقفًا ارتجاليًا، بل جاء عن سابق إصرار وتصميم خلاصةً لمسار أمريكي – صهيوني طويل.. كان كل شيء معدًّا سلفًا وفقًا لما بدأ يرشح من مواقف مسؤولي العدو الصهيوني، وعلى رأسهم وزير الحرب السابق يوآف غالانت. لقد أفصح الرجل عن الخطط العسكرية التي كانت تهدف إلى شن عدوان على لبنان بالتزامن مع العدوان على قطاع غزة بعد 4 أيام فقط على عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023، وبدأ نتنياهو تنفيذ مشروعه التوسّعي بتدمير قطاع غزة أولًا ولكن معركة الإسناد التي بدأتها المقاومة الإسلامية اضطرته إلى تأخير الشق اللبناني من المخطط عامًا كاملًا، وذهب وفقًا لنصيحة أمريكية إلى وقف إطلاق النار بمثابة "استراحة محارب"، ريثما يجري استكمال المخطط بقلب نظام الحكم في سوريا.
انتظر ترامب زيارة نتنياهو إلى واشنطن ليكرّس قيادة أمريكا لمشروع "الشرق الأوسط الجديد"، وهو الهدف الذي فشل شيمون بيريز في تحقيقه خلال عدوان العام 1996 وبحّ صوت وزيرة الخارجية كوندوليسا رايس وهي تبشّر به حتى جاء نتنياهو ليؤسس لهذا "الحلم"، ويحتفل مع ترامب بقرب إنجازه ويضمن تاليًا استدامة موقعه في زعامة "إسرائيل" أولًا، وثانيًا ليستكمل باقي خطوات الهيمنة والتوسّع، خصوصًا بعد أن منحه السيّد الأمريكي الضوء الأخضر لتكبير مساحتها الصغيرة وتطويبها لاحقًا عمدة المنطقة بهراوة غليظة ومسؤولًا لسوق "الحسبة" في ميدان النفط العربي ومن ضمنه طبعًا النفطين الفلسطيني واللبناني.
ما يميّز ترامب عن أسلافه من الرؤساء أنه صريح إلى حدّ الوقاحة، وواضح إلى حدّ فضح مشاريعه المعلنة والمبيّتة، وهو يحرص على إخراج نفسه من ربقة الخضوع لسيطرة المال والسلطة في أمريكا بتمرّده على قيود "الدولة العميقة" ليكرّس نفسه زعيمًا على العالم، وليس فقط على الولايات المتحدة. ولئن رأى البعض فيه رجلًا غير مؤهل للسياسة والحكم وأنه مجرد رجل "بيزنس"؛ إلا أن كل ما يقوم به الرجل من إجراءات داخلية وخارجية وما يطلقه من مواقف يجدها البعض رعناء وغوغائية، إلا أنها تندرج ضمن مخطط ممنهج لإحكام السيطرة العالمية الشاملة بالإفادة من التطوّرات المتراكمة، ومن دون أن يحيد عن الغاية المحورية الهادفة إلى الإطباق على منطقة غرب آسيا، أي "الشرق الأوسط" وفقًا للمصطلح الاستعماري، والغني بالثروات والطاقات وأسواق الاستهلاك.
لم يجد ترامب حتى الآن أي من الأنظمة والدول في العالم من يؤيده في مشروع "امتلاك" قطاع غزة، حسبما صرّح به فيما باشر نتنياهو بإعطاء توجيهاته للبدء بتنفيذ مشروع التهجير، وفقًا لما صرّح به وزير الحرب "يسرائيل كاتس". وجاء بيان البيت الأبيض ليخفّف من حدّة التعابير التي استخدمها؛ ولكنه استبطن تأكيدًا على المضي في المشروع لجعل قطاع غزة خاليًا من الفلسطينيين أصحاب الأرض وتحويله إلى واحة اقتصادية وسياحية، وأرضًا خصبة لاستقطاب المشاريع التجارية.. لم لا؟ وهو سيكون مصبّ التقاء لخطين ضخمين، الأول: الطريق الهندي البديل عن مشروع "الحزام والطريق" الصيني، والثاني: قناة "بن غوريون" التي ستشق الأراضي الفلسطينية من ميناء إيلات على ساحل البحر الأحمر وصولًا إلى شاطئ عسقلان المطلّ على البحر الأبيض المتوسط.. ومع ذلك يصبح واجبًا، في منطق ترامب- نتنياهو، تهجير الفلسطينيين وإغرائهم بأماكن سكن لائقة لهم بدلًا من انتظارهم 15 عامًا قابعين في الخيام والبيوت البلاستيكية، وهي المدة ذاتها التي سيستغرقها إتمام المشروع.
هل سيسمح العرب والمسلمون جميعًا بذلك؟! وأين ستصبح القضية الفلسطينية؟! هل ستقبل مصر بقتل قناة السويس خدمة لــــ"إسرائيل" ولمصلحة قناة "بن غوريون"؟! هل سيكون للأوروبيين حصة في الكعكة الأمريكية أم يصبحون في عداد المستهلكين لموارد الطاقة بإدارة إسرائيلية ومكتب "قومسيون" تركي؟! ماذا سيكون موقف الصين وروسيا المتضررتين الرئيسيتين من هذا المشروع؟! كيف ستتدحرج خطوات نتنياهو في تنفيذ مخطط التوسّع والتمدّد باتجاه العراق ودول الخليج؟! ما هي السيناريوهات المرسومة لمستقبل سوريا في الخارطة الجديدة وأين موقع تركيا من ضمن هذه الحسابات المعقدّة؟! وماذا عن اليمن الذي يطبق فيه "أنصار الله" على مضيق باب المندب؟! وهل سيغامر ترامب فعلًا في إنزال عسكره في قطاع غزة لتمهيد الظروف المناسبة لعمل الشركات الأمريكية؟! ماذا عن حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن؟! وكيف سيتعامل ترامب مع العقدتين اللبنانية والإيرانية؟! هل سيكون مشروع ترامب الاستعماري خطوة انتحارية غير محسوبة قد تشعل نيران الحرب العالمية الثالثة؟
أسئلة كثيرة تتوالى وكلّها تختزن عناصر التحقّق؛ خصوصًا إذا ما أخذنا بالحسبان أن العالم تحوّل اليوم إلى مجموعة بؤر بركانية ناشطة ومتحرّكة، فهل يفعلها ترامب ويشعل فتيل الانفجار؟!