أوراق ثقافية

مساعٍ حكومية للسيطرة على صنّاع المحتوى في العراق

post-img

محمد علي/ العربي الجديد

مع ارتفاع عدد صنّاع المحتوى في العراق بين ترفيهي وعلمي وثقافي واجتماعي وديني، ترفع السلطات في بغداد من وتيرة إجراءاتها للسيطرة على ما يقدمونه، وكان آخرها الحملات ضد "المحتوى الهابط"، والذي يُقدر عدد من اعتقلوا خلالها بنحو 100 صانع محتوى بين العامين 2023 و2024. وحكم الأسبوع الماضي على صانعة محتوى بالسجن لمدة عامين، بتهمة "نشر المحتوى الهابط"، بعد أن ظهرت وهي ترقص وتغني عبر حسابها على منصة تيك توك.

يستهلك العراقيون أغلب وقتهم في مشاهدة الأخبار والتطورات اليومية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، بدل الفضائيات والصحف والمواقع الإلكترونية، وفقًا لخبراء في هذا المجال. يؤكدون أيضًا مساعي القوى السياسية للدخول إلى هذه الصنعة وامتلاك جانب منها وتسخيرها ضمن دعايتها السياسية، حتى لو كان من خلال كسب المشاهير من صناع المحتوى ومنحهم مرتبات أو مكافآت شهرية. ونهاية الشهر الماضي، أعلنت هيئة الإعلام العراقية، التي تخضع لنفوذ أحزاب وقوى سياسية نافذة، عن قرار بوضع "لائحة تنظيم عمل المشاهير وأصحاب المحتوى الرقمي"، وبرّرت ذلك بأنها "تهدف إلى تنظيم عمل هذه الفئة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي".

أثار القرار لغطًا واسعًا، واعتبره الكثيرون تضييقًا جديدًا على المحتوى الذي يقدمه العراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة "تيك توك" و"يوتيوب" و"فيسبوك" الأكثر انتشارًا في البلاد.

ازدواجية في الحكم على المحتوى

يقول مسؤول في هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك أكثر من 10 آلاف صانع محتوى في العراق، ويجب السيطرة على ما يبثونه من أفكار وثقافات"، ويرى أن "الحملات ضد المحتوى الهابط أدت إلى تراجع الكثير من صناع المحتوى عن تقديم أشياء تافهة". لكن في الوقت نفسه، لا تلاحق السلطات العراقية رجال الدين الذين يبثون خطاب الكراهية والطائفية، ولا المحرضين على النساء وملابسهن أو على الحريات الخاصة للمواطنين وكذلك على الناشطين المدنيين، وهو ما يجعل إجراءات الحكومة العراقية الحالية بمثابة توجهات أحادية تستثني من يتحدث أو يطرح أفكارًا تدور في فلك الأحزاب الحاكمة، وتخدم توجهاتها الطائفية والدينية.

يشير المسؤول، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، كونه غير مخول بالتصريح، إلى "خطة كبيرة ستكشف لاحقًا للسيطرة على صناع المحتوى"، ويعلل ذلك بضرورة "تقديم وجه مشرّف للعراق أمام الدول الأخرى؛ لا نريد عريًا ولا أفكارًا غربية منحرفة، ولا تحريضًا على العملية السياسية".

لا تفصح السلطة عن المواد القانونية التي تحاكم صناع المحتوى بموجبها، لكن المؤكد أن إجراءاتها تستثني صناع المحتوى المؤيدين للفصائل والمليشيات المسلحة، والتي تتضمن عادةً ترويجًا لخطاب طائفي يشجع على الكراهية ويحرض على الحريات، إذ ظهر أحدهم قبل أيام وهو يسيء للنساء ويحرض على ضربهن بسبب ملابسهن.

تأثير واسع

أختصاصي الطب النفسي الدكتور أحمد السعيدي يؤكد، من خلال اطلاعه على عدد من الحالات، "تنامي تأثير منصات التواصل الاجتماعي على فئات واسعة من المجتمع العراقي". ويوضح السعيدي، لـ"العربي الجديد"، إلى أن "انتشار هذه المنصات بشكل كبير جعلها مؤثرة على مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية وحتى على تصرفات الأفراد، لا سيما الشباب". ويشرح أن نوعية المحتوى، سواء كان هادفًا أم هابطًا، هي العامل الأساسي في تحديد طبيعة هذا التأثير. كما يلفت إلى أنه يتابع عددًا من صانعي المحتوى، بهدف "دراسة وتحليل ما يقدمونه وتأثيره على الآخرين، خاصة أن اضطرابات نفسية عدة أخذت تنتشر في العراق من جراء تعقيدات الحياة والوضع الاقتصادي". ويرى أن "المحتوى الهادف يمكن أن يكون أداة فعالة في نشر الوعي وتثقيف الشباب وتعزيز مهاراتهم، في مختلف المجالات العلمية والفنية والثقافية وغيرها". ويقول: "كثيرًا ما أنصح أشخاصًا يعانون من اضطرابات نفسية بمتابعة صناع محتوى يقدمون برامج ترفيهية ذات معلومات قيمة". ويستدرك قائلًا: "دائمًا أحذر من خطورة المحتوى الهابط الذي أصبح ظاهرة متنامية في العراق خلال السنوات الأخيرة (...) لمسنا أنه يتسبب في تدهور القيم الاجتماعية ويؤثر سلبًا على الصحة النفسية، من خلال الترويج لسلوكيات غير صحية أو مضللة".

بدوره، يرى عضو التيار المدني العراقي، أحمد حقي، في إجراءات السلطة ضد صناع المحتوى بأنها "محاولة للسيطرة عليهم"، ويشير إلى أن "المحطات الفضائية والصحف والوكالات مسيطر عليها في العراق من قبل السلطة، ووجود وسائل اتصال وإعلام مؤثرة هاجس مقلق للأحزاب الدينية الحاكمة في العراق". ويشير حقي إلى أن "الإجراءات الحالية ضمن ما يُعرف بالمحتوى الهابط تستثني أصحاب الخطاب الديني الموالي للأحزاب أو المرضي عنه حزبيًا. وبرأيه، فإن "الجمهور هو من يحدد نجاح أو فشل صانع المحتوى بمتابعته والتفاعل معه أو إهماله، وهذه الظاهرة موجودة في كل العالم مع اتساع الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي".

يلفت حقي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن تنظيم العمل يجب أن يكون "في محاربة التحريض والكراهية والطائفية والعنصرية، والاعتداء على الأعراض والشرف، أو التقليل من قيمة الآخرين، وضمن القانون العراقي النافذ، لا أن تسجن صانعة محتوى لأنها رقصت على منصتها، أو حبس آخر لأنه دخل تحديًا يغمس نفسه في الطين ليضحك الآخرين ويستقطب مشاهدات مثلًا".

مواقف متباينة

على الرغم من الانتقادات، فإن بعض صناع المحتوى يثقون بأن ما يقدمونه جزء من هواية وتعبير عن رغبات شخصية. بالنسبة لعلاء طالب (23 عامًا) فإن اهتمامه بتشجيع فرق رياضية يدفعه إلى تقديم محتوى عنها عبر حسابه على "إنستغرام".

يستعرض طالب في حسابه قوة فريق الزوراء العراقي، وفريقي ريال مدريد وليفربول ومنتخب إسبانيا، بأسلوب يثير غضب مشجعي فرق منافسة، وأحيانًا تنشب خلافات في التعليقات تخرج عن الذوق العام. يقول لـ"العربي الجديد" إن ما يجري "حرية رأي. أتقبل ما يقال عن المحتوى الذي أقدمه وأسعى لأكون مشهورًا على المستوى العربي. ما زال عدد متابعي حسابي بعيدًا عن الطموح".

من جهته، يقول الرسام محمد وليد (29 عامًا)، وهو نحات متخصص في تطويع الزجاج لصناعة الهدايا ومواد الزينة، إنه يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لترويج أعماله الفنية ونشر الإبداع في المجتمع. يرى أن الفن ليس مجرد هواية، بل رسالة تهدف إلى إصلاح وتقويم وتهذيب الذوق العام، ويلفت إلى أنه يستغل مواقع التواصل للترويج لفنه الذي يكسب منه أجرًا. ويعبّر في حديثه مع "العربي الجديد" عن استيائه من انتشار "المحتوى الهابط"، إذ إن "كثيرين ممن يقدمون هذا النوع من المحتوى يصفون أنفسهم بالفنانين أو المبدعين أو الموهوبين، بينما في الواقع يقدمون محتويات مبتذلة ويطلقون ألفاظًا خادشة للحياء". يضيف: "للأسف، أصحاب المحتويات الهادفة التي تعزز الثقافية والوعي يعانون من ضعف الانتشار، بينما يحقق المحتوى السطحي مشاهدات ضخمة تسحب البساط من تحت أقدام المبدعين الحقيقيين".

يرى محمد وليد أن "الفن الحقيقي يجب أن يكون وسيلة لإلهام الأجيال القادمة ونشر الجمال بدلًا من ترسيخ قيم غير لائقة"، ويؤكد أن النحت والرسم والأعمال اليدوية والموسيقى والغناء قادرة على نقل رسائل ثقافية وحضارية تعكس هوية العراق الفنية، ويشدد على أن "المجتمع العراقي اليوم بحاجة ماسة إلى دعم الفنانين الحقيقيين، وتشجيع المحتوى الإبداعي الذي يسهم في نهضة ثقافية بدلًا من الترويج لمحتويات تهدم القيم ولا تقدم أي فائدة".

محتوى هابط أم حرية تعبير؟

البعض يرى أنّ ما يُعرف بـ"المحتوى الهابط"، شكل من أشكال حرية التعبير، وهو ما يذهب إليه كثير من الشباب، ومن بينهم كرم عبد الحسن (22 عامًا) الذي يعمل حلاقًا، ويسعى ليكون شهيرًا على "تيك توك". يبدو الشاب في حديثه مع "العربي الجديد" ناقمًا من تشديد الرقابة الحكومية على منشورات المشاهير، ويصف ذلك بأنه "قمع للحريات" وسيعوق مشروعه الذي يعمل عليه.

منذ أكثر من عام استجابت السلطات العراقية لمناشدات مواطنين وجهات ومنظمات مختلفة يطالبون فيها بوضع حدّ لمحتويات اعتبروها مسيئة بحق المجتمع، ووجهت إنذارات لمشاهير وعقوبات بالسجن لآخرين أدينوا بتقديم "المحتوى الهابط".

يقول عبد الحسن: "سجلت عددًا من مقاطع الفيديو أقدم فيها محتوى شبابيًا بأسلوب فكاهي تتخللها ألفاظنا التي نتداولها بيننا نحن الشباب، لكن أحد أقربائي أكد لي أنني سأسجن إن نشرتها".

يتخذ الطالب الجامعي همام جاسم (20 عامًا) موقفًا معارضًا لعبد الحسن، ويعبّر لـ"العربي الجديد" عن تأييده لمعاقبة ناشري "المحتوى الهابط"، لأنّ "تأثيرًا سلبيًا أخذ ينعكس على سلوك الأفراد، ولا سيما الشباب والصغار بسبب هذه المنشورات"، ويؤكد أن "ما ينشره عدد غير قليل من المشاهير يتخلله الاستهتار والعنف اللفظي والسلوكيات الاستفزازية". ويضيف: "لذلك أخذنا نشهد انتشار ألفاظ نابية وحركات مخلة بالآداب من خلال تقليد المشاهير، ما يؤكد أن هذه المنشورات تؤثر سلبًا في القيم المجتمعية وتروج لسلوكيات غير مقبولة، ما يستوجب التدخل القانوني".

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد