بول مخلوف/ جريدة الأخبار
على النقيض من العهود السابقة، يبدو هذا العهد منفوخ العضلات، نشيطاً مفرطاً في النشاط. حتى في نهاية الأسبوع حين تخبو الحركة ويأخذ السياسيون استراحة طفيفة، فإنّ الوسط السياسي يعمّه الضجيج والغلوّ.
الظاهر أنّ العهد الحاليّ يتماهى مع ما وعد بتحقيقه في خطاب البيان الرئاسي: إنه منتعشٌ جداً ولا يبتغي إنعاش البلد فقط. الحياة السياسية اللبنانية في الأسبوع الفائت حفلت بمجموعة من الأحداث البارزة داخل لبنان و... خارجه.
سيدة لبنان الأولى التي عرفت بأناقة فساتينها وبإطلالاتها البهية، نعمت عون، وصلت إلى نيويورك وبدأت بإنجاز المهمات الملقاة على عاتقها منذ يوم الخميس. بعد إلقائها كلمة في الأمم المتحدة في مناسبة «يوم المرأة العالمي»، توجهت نعمت عون، نهار الجمعة، إلى القنصلية اللبنانية وخاطبت اللبنانيين الحاضرين هناك: «اشتقنالكم وناطرينكم».
هذا أبرز ما ورد في خطابها. في بال سيدة لبنان الأولى اقتراب موسم الصيف، وبال السيدة الأولى مشغول بالسياحة وكيفية جذب اللبنانيين المقيمين في أميركا إلى وطنهم الأمّ بوصفهم.... سياحاً. لقد اشتاق البلد لأبنائه، لقد اشتاق حقاً، لأموال أبنائه. سيدة لبنان الأولى، حماها الله ورعاها، تعلم أنّ هناك رهاناً كبيراً، محليّاً وعالمياً، على العهد المنفوخة عضلاته في انتشال لبنان من ركام البؤس، و«لإعادته» إلى «الساحة العالمية». إنها تفكّر في صلابة هذا العهد وتماسكه، بالتالي فهي تدأب حرصاً منها على عضلات العهد من أن يصيبها الترهل.
على الصعيد الحكومي، فاجأ رئيس الوزراء القاضي نواف سلام الجميع بذوقه الموسيقيّ وروحه اليافعة وحبّه للحياة. احتفاءً ببيروت وتحت شعار «صار وقت التغيير»، أقيمت حفلة موسيقية في «البيال» شارك فيها الفنان عاصي الحلاني و...«دي. دجاي» رودج. حضر سلام الحفلة التي رعتها MTV ووجّه رسالة للشباب اللبناني المُحتفل جاء فيها: «بيروت بتلبقلها الحياة، بتلبقلها الحرية، وبيلبقلها الجمال... بيروت عاصمة الأدب والفنون في هذه المنطقة... بيروت تستحق أن تستعيد دورها ورونقها».
المتابعون للشأن السياسي لاحظوا عيباً كامناً في مشاركة سلام في حفلة رودج، إذ بدا كالطالب الذي ينغمس باللهو على حساب دراسته وفروضه المنزلية. ففي اليوم الذي سبق حفلة «دي. دجاي» رودج، أغار الطيران الحربي الإسرائيلي بما يقرب من الثلاثين غارةً على الجنوب اللبناني، كما أطلق جنود العدو الرصاص على عنصر في الجيش اللبناني في بلدة كفركلا يدعى سميح درويش، ما أدى إلى استشهاده، ناهيك بـ «إدخال» العدو ثلاثة آلاف مستوطنٍ إلى إحدى القرى الجنوبية بحجة زيارة دينية لمقامٍ مقدّس. لم يقدّم نواف سلام أي رسالةٍ إثر ذلك للشعب اللبناني. لم يقدم حتى التعزية للمؤسسة العسكرية.
الظاهر أنّ الفضائل التي تكلم عنها سلام، المتمثلة في الجمال والحرية والحياة، محصورة ـ من منظاره ـ ببيروت فقط، فيما جمهوره هو الشباب «المُحتفل» فقط. أما باقي المناطق اللبنانية، جنوب لبنان مثلاً، فلا تعنيه، مثلما هو غير معنيّ بمن يقدّم التضحية والشهادة لكي تبقى بيروت ذات «دور ورونقٍ». على أنغام الحلاني ورودج، مارس سلام ما يمارسه عادةً السياسيون اللبنانيون: الخطابية الجوفاء على شاكلة إلقاء الاستظهار لكلامٍ لا يعدو كونه إنشائية ركيكة.
قنوات الإعلام اللبنانية برمّتها وليس فقط MTV، داعمة لعون وسلام. إنها سعيدة بالأخير على وجه التحديد؛ هو التكنوقراطي التغييري على شاكلة شلّة «طلعت ريحتكم»: الإطناب في السياسة صباحاً و«دي. دجاي» رودج ليلاً.
الحال أنّ العلاقة بين «قادة» العهد وبين الإعلاميين، لهي علاقة حب تجمع الطرفين. القصر الجمهوري يستضيف زيارات مخصّصة للصحافيين بشكل يومي. قبل أيام، استقبل الرئيس جوزيف عون الصحافي محمد بركات: كتفاه مرفوعتان، ويداه معقودتان، رأسه ممدود إلى الوراء قليلاً، وابتسامة وديعة رسمها على وجهه، وقف مستقيماً... تأهّبْ! و«تشِك تشِك»: هاكَ صورة تذكارية مع فخامة الرئيس. الفائز هو الذي يفوز في الإعلام. هذا درس «سبعطعش تشريني» حفظه جيداً الرئيس جوزيف عون حماه الله ورعاه.
حتى دكاكين البودكاست تنغل نغلاً في هذا العهد. لعلّ الحدث الأهم الذي حصل هذا الأسبوع هو مقابلة النائب بولا يعقوبيان على منصّة «بيروت تايم» التي روّجت خلال فترة حرب أيلول للزمن الإسرائيلي.
«المقدِّمة» سابين يوسف التي كان حساب «وزارة الدفاع» الإسرائيلية على إكس يعيد نشر تغريداتها، والتي كانت تنشر تقارير على إكس تفيد بأنّ حزب الله «يخزّن» سلاحه تحت المستشفيات، استضافت بولا يعقوبيان وسألتها: «هل نحن ذاهبون نحو السلام مع إسرائيل؟».
جاوبت بوليت يعقوبيان: «ممنوع يبقى هذا الشيء تابو». ناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي تدعى لورين، علّقت على جواب يعقوبيان ساخرةً من استخدامها لمصطلح «تابو» (محظور) مع «إسرائيل»؛ «كأن يعقوبيان بذكرها للـ«تابو» في سياق كلامها عن إسرائيل، تخال أنها تتكلم عن شؤون مثيرة للجدل كالمساكنة أو الإجهاض» قالت لورين. بولا يعقوبيان التي تتبجّح بالديموقراطية، وحماستها تجاه الحريات الشخصية فائضة، تفرض المنع فرضاً: «ممنوع يبقى هذا الموضوع تابو» إذاً. سابين يوسف كانت تصغي وتهمهم، قالت لها: «همم». والـ«همم» يعني «نعم». والـ«نعم» تعني أكملي.
أكملت يعقوبيان وصرّحت بمعلوماتٍ جديدة، بعضها يذكّر بالأسلوب «النبوئي» لمحمد علي الحسيني، الذي اعتاد التنبؤ بالمشهد السياسي. فقد تكلّمت يعقوبيان عن «تفاهمات تخصّ كل المنطقة يتمّ النقاش بها حالياً»، أي عن مصيرٍ مرسوم نحن قادمين عليه، كما أوردت معلومة لم نكن على درايةٍ بها: «سوريا وقّعت». والمقصد من «سوريا وقعّت» أنّه إما الأسد أو الجولاني قد وقّع سلاماً مع إسرائيل، واللهُ أعلم.
أين وكيف ومن ولماذا ومتى؟ لا جواب، لأنّ كل تلك الأسئلة لم تطرح. ثم أضافت بولا يعقوبيان: «إذا وقع الجميع، هل من الصائب أن يقول لبنان كلا لا أريد التوقيع؟».
بعدما صالت وجالت، وعادت إلى المبادرة العربية الحاصلة عام 2002، وأعادت شرح «رؤية» السعودية للقضية الفلسطينية لم تجب يعقوبيان على سؤال يوسف: «هل نحن ذاهبون إلى التطبيع مع إسرائيل؟» بل ذهبت إلى الإجابة عن: لماذا يعد السلام مع إسرائيل مفيداً؟ فإذا كان المراد من سؤال يوسف أنّ التراكمات السياسية وتغيّر ملامح بعض الدول، سيدفعان لبنان قسرياً إلى الذهاب نحو التطبيع، فإنّ يعقوبيان قفزت فوق هذا المغزى وتعاملت مع مسألة التطبيع على أنها مسألة «تقدّمية» تناقض «مقاومة» إسرائيل ذات النزعة «الخشبية» من جهةٍ. كما أنّ السلام مع إسرائيل «مفيد» لبلدٍ مثل لبنان على «الأصعدة كافة» من جهةٍ ثانية. إنّ المسألة شديدة الوضوح عند بولا يعقوبيان: «لبنان سينعم باستقرار عندما يحلّ السلام مع إسرائيل». نائب في البرلمان اللبناني يروّج للسلام مع إسرائيل، ألوو؟!
ينعم الفكر الإن. جي. أوزي بقدرة هائلة على طرح المعضلات بخفةٍ واعتباطيةٍ، كأنه في «تبسيط» المعضلة لا يتم تقديم جواب ساذج وسهل يتسلّح به الساذج (الساذج في حالتنا هنا هو الشباب اللبناني المُحتفل)، إنّما تُخلق موجة شعبوية فاشية تفرض المنع فرضاً وتريد السلام مع الوحش فيما تتلطّى الداعية وراء شعارات الحريات والاستقرار و«الدور الإيجابي» للبلد. غير أنّ الذين استشهدوا دفاعاً عن أرض لبنان وديموقراطيّته، هؤلاء الذين لا يعيرهم أحد من السياسيين اليوم أي أهمية، قد تركوا لنا درساً واحداً هو: الممنوع الوحيد في هذا البلد هو السلام مع إسرائيل. وليحلم الفاشيون «المؤنجزون» بمنعهم وفرضهم ما يريدون منعه وفرضه، وليحلموا بالسلام بقدر ما يشاؤون... والسلام عليكم.