تالا حلاوة/ العربي الجديد
افتتح المتحف الفلسطيني في مدينة بيرزيت معرضًا بعنوان "بأُم عيني" للمصورة الفرنسية جوس دراي التي بدأت بتوثيق حياة الفلسطينيين ومقاومتهم للاحتلال منذ عام 1987. يجمع المعرض صورًا من أعمال دراي الأرشيفية التي غطّت العديد من الأحداث السياسية الفلسطينية في العقود الماضية، أبرزها الانتفاضتان الأولى والثانية، حيث التقطت عدستها تفاصيل حياة الإنسان الفلسطيني في تلك المرحلة خلال مرافقة العائلات الفلسطينية في المخيمات والمدن والقرى والعيش معها لفترات.
يرى المتحف أن إقامة هذا المعرض الآن، وفي ظل الإبادة المستمرة في قطاع غزة وحواجز الاحتلال واعتداءاته في الضفة الغربية والقدس يشكّل تقاطعًا مع ما عاشته فلسطين سابقًا وما تعيشه اليوم من خيم النزوح في الشمال والجنوب، إلى تدمير المخيّمات في مخيمي نور شمس وجنين، وحصار الضفة الغربية وفصل المدن والقرى بالحواجز والبوابات.
تقول القيّمة على المعرض مرح خليفة إنه في الحالة الفلسطينية: "الماضي ليس ماضيًا، وإذا كانت النكبة مستمرّة، فهذا يُفضي إلى أنّ الماضي مستمرّ بطريقة أو بأخرى، وإلى أنّ الزمن في فلسطين لا يسير للأمام بالشكل الاعتيادي، في بعض الأحيان هذا الزمن دائريّ، يدور في حلقة من العنف الاستعماري والمقاومة اليومية الملحمية والعادية، وحلقة من الحياة والموت، والصمود والنزوح".
أما جوس دراي التي تعرّف عن نفسها بأنها "مصورة مقاومة"، فتعود بنا إلى تجربتها أيام الانتفاضتين، وتقول إن الإعلام الغربي اهتم بتغطية الانتفاضة الأولى مثلًا بصفتها "انتفاضة الحجارة فقط من دون إيلاء الاهتمام الكافي بتغطية التنظيم المدني والشعبي والسياسي لهذه الانتفاضة".
لهذا يلتفت الزائر لمعرض "بأُم عيني" لتركيز دراي في جوهر صورها على وجوه الأفراد، وملامحهم، وعيونهم، ومعيشتهم اليومية، ولحظاتهم الخاصة في محاولة لرأب هذا الفراغ الذي تركه الإعلام التقليدي. فتصف دراي نفسها بالمصورة التي توثق حياة الشعوب التي تقاوم الاحتلال ولا تصنف نفسها "مصورة حروب"، فهي ترغب أن تقدّم فنّها المتعلق بالفلسطينيين بالدرجة الأولى على حد تعبيرها. تضيف": "لقد صورت شعبًا ومقاومته وكرامته وحقه في العيش على أرض فلسطين".
ترى جوس دراي أن أهمية التصوير الفوتوغرافي لا تتزعزع على الرغم من اختلاف الأزمان ما بين الانتفاضتين واليوم في ما يتعلق بانتشار كاميرات الهاتف المحمول واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي للنشر، فبرأيها أن هذه الوسائط أصبحت مصدرًا هامًا لوصول المعلومات للجمهور "وخاصة بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث تجرّم دعم المقاومة الفلسطينية، وينبذ المصورون الفلسطينيون من غزة أو الضفة الغربية، والطريقة الوحيدة لنشر المعلومات عن فلسطين هي شبكات التواصل الاجتماعي".
كما تشير دراي إلى أن وسائل التصوير الفوتوغرافي عبر الهاتف تتيح لها العمل مع مجموعات في فلسطين لإنتاج أعمال فوتوغرافية، ذكرت منها معرضًا بعنوان "هنا تبدأ الحرية" الذي يجمع صورًا من مخيم جنين ويتجوّل حاليًا في مدن فرنسية عديدة، لافتة إلى أن هذا المعرض يتيح للجمهور "رؤية كيف كان مخيم اللاجئين قبل التدمير القاسي الذي يحدث اليوم".
تتفق خليفة مع دراي حول أهمية النشر على اختلاف أدواته، ورغم الضغوطات وحملات التشهير التي يتعرض لها المناصرون للقضية الفلسطينية، فالكثيرين منهم ما يزالون ملتزمين بدورهم الأخلاقي. تقارن خليفة الحال ما بين الانتفاضة الأولى والآن، تقول: "كان التضامن مع الفلسطينيين أصعب من الوقت الحالي، فما كان ينشر عن فلسطين مسيطر عليه من القنوات الإعلامية المتواطئة مع الاستعمار. اليوم مع وسائل التواصل الاجتماعي، بات وصول المعلومات أسهل على الرغم من كل سياسات التعتيم، غير أنّ وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا في حرب الإبادة وحتى في هبة مايو/ أيّار 2021، كسرت الاحتكار على السردية التي فرضتها وسائل الإعلام الرسمية". "اليوم، هناك أفراد ومؤسسات وطلبة مثقفون تجرأوا على التضامن العلني والصريح مع فلسطين، هناك مجموعات ومؤسسات انتقدت السياسات الإسرائيلية وطالبت بوقف الحرب، فما كان من الحكومات المتواطئة، خصوصًا مع صعود ترمب، إلّا أنّ عاقبت هؤلاء المتضامنين، كلّ هذا يأتي لقتل البيئة التي من الممكن أن تنتج جيلًا نقديًا تجاه سياسات الغرب وسياسات التواطؤ مع الإجرام"، تضيف خليفة.
برز سؤال جدوى الثقافة والفنون منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أواخر العام 2023، فعملت العديد من المؤسسات الفلسطينية على إقامة المعارض والندوات لتعيد تموضعها ودورها في المجتمع الفلسطيني في محاولة لاستمرار عملها في خدمة الجمهور الذي يواجه عقبات بالوصول إليها. فنظم المتحف الفلسطيني مجموعة من المعارض المتنقلة، مثل معرض غزّة الباقية الذي عرض في أكثر من 130 موقعًا حول العالم.
في هذا السياق، تؤكد خليفة أن: "سؤال الجدوى دائم الحضور في السياق الفلسطيني، جدوى المقاومة، جدوى الثقافة، جدوى التعليم... وهو سؤال شرعي طوال الوقت. وقد تكثّف في الإبادة، حيث أصبحت الثقافة والعمل الثقافي وجهًا لوجه مع سياسات التطهير العرقي والإبادة. إذ كيف من الممكن أنّ ننجز معرضًا خلال الإبادة؟ ما جدوى ذلك؟ نحن في سعي دائم نحو الإجابة، تحدّينا وهمّنا هو أن نبقى على اتصال مباشر مع السياق، صوتًا للناس، أن نظلّ قريبين مما يحدث على الأرض في مخيّمات الضفة، وفي قطاع غزة، وأن ننشر سرديتنا".
يستمر عرض صور جوس دراي في المتحف الفلسطيني إلى جانب معرض "هذا ليس معرضًا"، الذي افتتحه المتحف في فبراير/ شباط 2024 ويشتمل على نحو 300 عمل فني لفنانات وفنانين من غزة، بالإضافة إلى العديد من المجموعات والأعمال الفنيّة الدائمة. كما يعمل المتحف على إنتاج نسخة متنقلة من معرض دراي باللغتين الإنكليزية والعربية بحيث تكون قابلة للاستخدام والعرض في أي مكان في العالم.