إيهاب شوقي/ كاتب عربي من مصر
عقب الاستهداف الصهيوني الإجرامي للضاحية الجنوبية للمرة الثالثة بعد وقف إطلاق النار؛ كان الرد من سكان الضاحية ردًا تلقائيًا وموحيًا، وهذا الرد المتمثل برفع هتاف "لبيك يا نصر الله"، جاء كاشفًا للعديد من الدلالات التي لا ينبغي أن تمر من دون إلقاء الضوء عليها.
من أبرز هذه الدلالات هو وعي جمهور المقاومة بأنّ العدو يعاقبهم بسبب خيار الشرف والمقاومة والانتماء لحزب الله وللقائد التاريخي الشهيد السيد حسن نصر الله. وهنا جاء الهتاف ليعلن الصمود والتمسك بالانتماء مهما كانت التضحيات، فضلًا عن دلالته على حضور سيد المقاومة بروحه ونهجه وامتداد هاماته.
لعلّ الأمين العام الشيخ نعيم قاسم جسّد هذا الامتداد فور توليه المهمة التاريخية الصعبة، في توقيت بالغ الحساسية والدقة، حين أعلن الالتزام بالعهد وبمسيرة القائد الشهيد، لتكتمل منظومة الوفاء والصمود عبر تكامل وحدة القيادة والجماهير، ولتصل رسالتها كاملة إلى لعدو والصديق.
الدلالة الأخرى أعمق كثيرا من مجرد رد فعل عفوي كاشف، وهي تتمثل في أن الانتماء للسيد نصر الله، ليس مجرد انتماء لشخص أو لرمز، إنما هو انتماء لخيار ونهج ولمدرسة مقاومة، شكّلت فرعًا من فروع المدرسة الحسينية الكربلائية؛ بكل ما تحمله من صمود ورفض للذلة، واستعداد دائم لتقديم التضحيات برضا وقناعة وإيمان.
هذا الهتاف عندما يصل إلى مسامع العدو فهو يخبره بفشله في كسر إرادة المقاومة وجمهورها. وهو إعلان عن إجهاض أهداف الجريمة الكبرى التي استخدمت القنابل الخارقة التي تزن أكثر من ألفي رطل لاختراق الحصون، ولكنها فشلت في اختراق حصن المقاومة الحصين.
لا يُخفى على أحد أن من أهداف الصهاينة، دومًا، شق الصفوف ورفع كلفة الخيارات وتأليب الشعوب على المقاومة، كونها سببًا في القتل والتشريد والحصار والعزلة. وهذا ما أفشلته هتافات الوفاء بالعهد والبيعة؛ على الرغم من كل ما لحق بالضاحية من دمار، وعلى الرغم من زرع الرعب في قلوب الآمنين.
كما لا يُخفى على أحد أن من أهداف الصهاينة العبث بالمعادلات التي رسخها حزب الله، بقيادة الشهيد السيد نصر الله، ومحاولة تسييد قناعة بأنّ هناك هزيمة وضعفًا وتراجعًا في قوة المقاومة، يتبعه تراجع في ميزان الردع. وهذا ما أثبت الجمهور فشله؛ وأنه وهم استراتيجي عند العدو؛ لأن الردع لم يتشكّل بقوة السلاح والصواريخ فقط، وإنما كان الأساس فيه هو الإرادة الشعبية المقاومة وبيئة المقاومة الحاضنة. وهنا؛ أثبت شعب المقاومة أنه ثابت لا يتزعزع، فضلًا عن احتفاظ الحزب بقدراته وسلاحه؛ بدليل هذا الجدل وهذه الضغوط والفتن لنزع سلاحه، وإلا لو كانت "إسرائيل" تؤمن حقًا بانتصارها؛ فلماذا تطالب بالضغط لنزع السلاح!
في هذا السياق؛ شعار "لبيك يانصر الله" إلى جانب أنه يعكس وفاء الجماهير وقدر هذا القائد التاريخي ورمزيته، هو ينضم إلى شعار آخر اجتمعت به قيادات حزب الله وأنصار المقاومة في مشهد التشييع التاريخي للسيد، وهو شعار "إنا على العهد"، ليشكلا دلالة وعنوانًا ضخمًا، وهو بقاء مدرسة السيد نصر الله واستمراريتها وديمومتها.
هذه المدرسة الاستراتيجية الشاملة التي استوفت كل شروط العلوم العسكرية والاستراتيجية، بعناوينها ودقائقها، من حيث الجمع بين الاستراتيجية الدفاعية والهجومية ووسائل الحرب غير التقليدية والحرب النفسية والتعبئة الجماهيرية، وانتمت إلى المدارس الفلسفية والأخلاقية الكبرى بإطارها الأيدلوجي الواضح وثوابتها، ستبقى ولن يستطيع العدو الإسرائيلي ولا راعيه وقائده الأميركي أن يزلزلوا أركانها ومحوها.. لأنها اختلطت بتراب الجنوب المعطر بدماء الشهداء؛ وهو ما لا يستطيع العدو إزالته، وأصبحت مكونًا وجدانيًا وروحيًا، وهو ما لا يقدر العدو على اقتلاعه حتى لو نجح في قتل الأجساد..
كما أنّها تطورت على يد قائد كرس قدسية المقاومة، وهي ليست مجرد فضيلة أو واجب أخلاقي ووطني، بل هي تكليف ديني؛ لأنها مرتبطة بجوهر الدين الحقيقي القائم على العزة والكرامة والعدل وحماية المستضعفين.
هذا الهتاف والتمسك المقاومة هو أكبر عامل يطمئن حزب الله وقيادته، ويوسّع دوائر خياراتهم، ويرفع عنهم العوامل التي تشكّل ضغوطا في تشخيص المصلحة واتخاذ القرارات، والتي تراعي دوما سلامة الآمنيين وحمايتهم. كما هو طمأنة للقيادة وتفويض وتجديد للبيعة مع كل عدوان.. وهنا انتقل الشعار من نطاق الإيمان والوفاء إلى نطاقات أخرى سياسية واستراتيجية؛ لا بد وأنها وصلت إلى عقول العدو الاستراتيجية وفطنتها جيدًا.
من حق كل غيور على المقاومة ونصير لها أن ينتابه القلق على مستقبلها؛ في ظل هذا الطغيان وغياب القانون والخذلان، بما فيه الخذلان العربي والإسلامي، ولكن ومع استمرار شعار "لبيك يا نصر الله"، فلا مكان للقلق؛ لأن الصراع الوجودي عنوانه الإرادة، وهذا الهتاف قد أثبت أنها بخير؛ لأنها رفعت شعارًا ارتبط برجل تجسدت فيه معاني الإرادة والصمود كلها.