اوراق خاصة

ترامب وتجديد الدعوة إلى "الإبراهيمية".. إكمال لمشروع استعماري جديد

post-img

د. زينب صالح الطحان/ خاص موقع "أوراق"

ليس صحيحًا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو أول من تحدث عن "الاتفاق الإبراهيمي"، في أثناء الاحتفاء بالتطبيع الإماراتي مع الكيان الصهيوني الغاصب، في ولايته الأولى. لقد كان إعلانه ذاك تتويجًا للانتهاء من الإعداد الفعلي للمشروع الاستعماري الجديد من جميع النواحي. لقد أسس لهذا المشروع مؤسسات ومراكز وجمعيات، بدأت تنتشر في عدد من البلدان؛ وخصوصًا العربية منها والمطبعة مع العدو الإسرائيلي تحديدًا.

دينيًا؛ الجمع بين "الأديان الإبراهيميّة" مغالطة عقديّة

أول من أطلق لفظ "الدين الإبراهيمي" هو الكاهن اللاهوتي يوكايم مارك، وكان يقصد به الإسلام، فما  لبث أن تحوّل إلى مقصوده اليهودية والمسيحية، ليُطرح على إثر ذلك أفكار: وحدة الأديان، التعايش بين الأديان، حوار الأديان، والذي أستغل بذكاء لتعبيد الطريق أمام مفهوم "الدبلوماسية الروحية". لقد استخدم هذا المصطلح لغايات براغماتية أكثر منها تاريخية، وهي محاولة تضليلية لإظهار أن هذه الديانات الثلاث متقاربة فيما بينها، علمًا بأن النظرة إلى النبي إبراهيم (عليه السّلام) تختلف عليها هذه الأديان فيما بينها. في الوقت الذي ينظر اليهود إليه على أنه أبو إسحاق وجدّ يعقوب وهو الملقب بـــ"إسرائيل"؛ أي هو جدّ اليهود، يراه النصارى مجرد شخص مؤمن نموذجي لطاعته وإيمانه، إلا أنه ليس موحّدًا أبدً. أما الإسلام فينظر إلى دين إبراهيم، بأنه يتطابق ودين الإسلام في التوحيد، فقد قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾. إذ إن أساس فكرة الدين الإبراهيمي يقوم على المشترك بين عقيدة الإسلام وغيره من العقائد- وهي فكرة باطلة؛ فالإسلام يقوم على التوحيد والوحدانية، وإفراد الله تعالى بالعبادة، بينما الشرائع المحرفة قد دخلها الشرك وخالطتها الوثنية، والتوحيد والشرك ضدان لا يجتمعان.

تغير منهج الدولة العميقة

قديمًا، كان يُنظر إلى الدين على أنه مصدر الصدام بين الحضارات والشعوب، كما نظّر المفكر الأميركي صموئيل هنتغتون، أن الحضارة الغربية بعدما انتهت من فكفكة الاتحاد السوفياتي السابق عدوها اللدود، بات أمامها التفرغ لمحاربة الدين الإسلامي الذي بات يشكل أتباعه الجدد خطرا عليها.. فماذا جرى، اليوم، ليكون هو الدين نفسه مصدرًا لتلاقي الشّعوب وبناء الحضارات؟ ليحلّ مفهوم "الدبلوماسية الروحية" في الساحة، ويقول إنّ الدين مدخلٌ للحلّ والتسوية، فجاء الحديث عن السلام الديني العالمي.

في هذا الإطار، يرى الباحث الأميركي العريق جيمس روزينوه أن مستقبل العالم سيرتكز على "السلام العالمي" الذي سيتحقق عبر "الديانات الإبراهيمية" والعقائد المتداخلة، لتكون مدخلًا جديدًا لحل النزاعات في العلاقات الدولية، وطرحًا بديلًا لنظرية هنتنغتون عن صدام الحضارات، ونظرية فوكوياما عن نهاية التاريخ، بل ليعكس نهجًا جديدًا داخل علم العلاقات الدولية كانت أهم ملامحه ظهور مفاهيم جديدة، مثل: التسامح العالمي، الإخوة الإنسانية، الحب، الوئام، مفاهيم جديدة مطروحة داخل هذا الحقل.

أيعقل التصديق أن دولة مارقة، قام وجودها وحدودها وفكرها وفلسفتها على مبادئ استعمارية في إلغاء الآخر واستلاب أرضه ومحوه من تاريخ الوجود- كما فعلت مع الهنود الحمر أهل الأرض الأصليين وما تزال تفعل مع الشعوب المستضعفة- ستتحول فجأة بين ليلة وضحاها إلى راعية السلام العالمي، داعية إلى الحب والتسامح والوئام؟ أو يقعل أن يتحول الثعلب الماكر إلى حمل وديع ذات يوم؟

لقد رسخت المدرسة الواقعية الأشهر في ميدان العلاقات الدولية شعارًا بوجوب خلو عالم السياسة من القيم المعيارية، مثل الدين، لذلك طالما سعت السياسة الأميركية إلى فصل الدين عن العالم السياسي "لتحرير المنطق من المعتقدات الدينية". لكن، في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما، نشأت حركة من المواقف التوفيقية تعترف بإمكان التعاون الديني السياسي، بسبب إدراك دور الدين في حفز الأفراد وتشكيل وجهات نظرهم.

شرح ذات يوم السفير الأمريكي المتجول للحرية الدينية الدولية صمويل د. براونباك إلى أن السبب يرجع إلى أن هذه حركة تحظى بتأييد من كِلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، وقد أُنشئت بموجب قانون "فرانك وولف للحرية الدينية" وتجديده. لقد كان قانونًا مدعومًا من الحزبين، فقد وقعه الرئيس أوباما عندما كان في منصبه، وما يزال يحظى بتأييد كبير من الحزبين في كلا المجلسين. وأضاف بأن: “هناك رغبة واضحة من جانب أعضاء المنتدى بتشجيع الحوار بين الأديان وسيلة لبناء التفاهم، وكذلك للحد من العنف، حيث نرى بشكل خاص الكثير من العنف في الشرق الأوسط، ونبحث عن طرق لاحتوائه، وإشراك علماء الدين من الديانات الإبراهيمية ليوضحوا أن الدين لا يدعم استخدام العنف".

غريب ألم يكن الدين الإسلامي المتهم الأول الداعي إلى ممارسة العنف وترهيب الآخر؟

إزاء ذلك؛ أعتقد من الغباء أن يفوتنا السؤال الآتي: هل هذه النظرة المغايرة عن السابق إلى الدين هي حصرًا تتعلق بأتباع الأديان السّماوية الثلاثة في منطقة "الشرق الأوسط"، أي غرب آسيا، أم أن دعاة الدبلوماسية الروحية يدعون إلى "الديانة الإبراهيميّة" لتشمل العالم كلّه؟ عندما تقرأ عن المسار التنفيذي لمشاريع هذه الحرب الناعمة ستجد أن المحيط الجغرافي الذي يحتويها هو المدار القطبي للبلدان العربية على وجه الخصوص، بدءًا من: فلسطين المحتلّة، العراق، لبنان، سوريا، المملكة العربية السعودية (موطن الحج الإبراهيمي)، تونس، المغرب، الأردن، الإمارات، وصولًا إلى تركيا وإيران.

لذلك يُطرح سؤال أخر: كيف يُترجم الاتّحاد الإبراهيمي عالميًا ما دام تنفيذه مقتصرًا على الفيدرالية؟  وما دام المشروع يٌنفّذ فيدراليًا، فأين هو من العالميّة، ولماذا لا يشمل دول أوروبا والغرب عمومًا؟

بُلور مصطلح "الديانة الإبراهيمية أكاديميًّا، في العام 2004، بعد تبني بعض الجامعات له في البحث الأكاديمي وتسويقه علميًا وإنضاج المشروع مؤسساتيًّا عبر تهيئة الأرضية المؤسساتية والمجتمعية والفكرية والنفسية لتبني الإبراهيمية، وكذلك التطبيقات التمهيدية بالتنفيذ الجزئي للمسار الإبراهيمي مع برامجه التنموية والسياحية. وفي العام 2020، كان اكتمال نضج المشروع والتنفيذ المعلن والنشط له، في ظل إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حين بدأت موجات التطبيع مع العدو الصهيوني لتكون أهم ملامحها وبرامجها.

أهم مقومات "المشروع الإبراهيمي"

  1. محوريّة النبي إبراهيم (ع): المشترك الرمزي بين الأديان.
  2. الديانات الإبراهيمية: ستتحاور لتصل إلى وضع ميثاق تكون له القدسية الدينية بديلًا من المقدسات السماويّة ويُنحّي الخلاف والفواصل (وضع كتاب مقدس جامع).
  3. آلية دبلوماسية المفاوضات غير الرسمية: دبلوماسيّة المسار الثاني هو ساحة مهيّئة لتعاون رجال الدين والساسة والدبلوماسيين ليعملوا معا لحلّ الصراعات المتشابكة.
  4. أُسر السلام (جماعات قاعدية)، الحوار الخدمي، نشر الأفكار عبر تقديم خدمات تنموية.
  5. الكيانات العلمية الداعمة؛ مثل الجامعات الدولية، وفي مقدمتها “جامعة هارفرد”.

الحقيقة الخفية في الدعوة إلى "الإبراهيمية"

  1. تفتيت ما تبقى من هوية عربية جامعة، ودمج "إسرائيل" عضويًا في المنطقة العربية، وفتح المجال أمامها للسيطرة والتحكم بدول وشعوب ومقدرات هذه المنطقة.
  2. تجريم مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية والفلسطينية، وعده نوعًا من الإرهاب والاعتداء الوحشي غير المسوّغ.
  3. تقبل واقع الاحتلال، والتنازل عن المقدسات الإسلامية بذريعة كونها تقع ضمن المظلة الإبراهيمية.
  4. فتح الباب على مصراعيه للتطبيع السياسي والثقافي مع "إسرائيل".
  5. التهيئة للتنازل المستقبلي عن مناطق أوسع من المشرق العربي وغرب آسيا(الشرق الأوسط الجديد) وتدويلها بحجة أنها مناطق إبراهيمية، ليست حكرًا على جهة معينة، تشمل مناطق في العراق وبلاد الشام وتركيا ومصر والجزيرة العربية، بما فيها مكة والمدينة المنورة.
  6. صناعة السذاجة والسطحية الثقافية بين شعوب المنطقة، تترافق مع الضعف الذي تحياه، ما يؤدي إلى تيسير مسألة تنازلهم عن الكثير من قيمهم من دون مقابل، والمسارعة في التصالح مع "إسرائيل" وفتح البلدان لها.
  7. اختلاق دين عالمي جديد "موحد للأديان السماوية" يجمع القيم المشتركة التي لا يوجد عليها خلاف فيما بينها ويدين المواطن لها، من خلال صوغ نصوص دينية مشتركة في كتاب مقدس جديد.
  8. تزكية الصراعات الدينية القائمة على الأرض بين أنصار الدين الواحد، وأهمها الصراع السني-الشيعي، فهو الممهد لقبول هذا الفكر على أساس أن سلوك أتباع الدين الواحد هو دليل على غياب التسامح داخل هذا الدين، وهو ما سينفر أتباعه، وسيجعلهم يقبلون بالمشترك الإبراهيمي.
  9. انتشار الجمعيات النسائية، كونها أهم سبل تحرير المرأة في المنطقة، وبخاصة التي تعاني تهميشًا اقتصاديًا، حيث تحتل المرأة مكانة مهمة داخل هذا الفكر؛ لأنها أساس الأسرة وبخاصة في منطقة "الشرق الأوسط".
  10. تزييف التاريخ وتشويه وعي الأجيال الجديدة، حيث حاولت منظمة الأونروا فور وصول ترامب إلى السلطة حذف عبارة "القدس عاصمة فلسطين" من المقررات الدراسية للصف الأول إلى الرابع الابتدائي بمدارسها لتحل محلها عبارة "القدس المدينة الإبراهيمية"، في محاولة لتغيير وتغييب هوية الأطفال خلال مرحلة التشكيل ليكونوا نواة التطبيق للمخطط المستقبلي، وتمهيدًا لزرع مصطلح الإبراهيمية.
  11. تصفية القضية الفلسطينية من دون أي حلول عادلة لها، بالاعتماد على صفقة القرن أو رؤية الرئيس ترامب لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، حيث تعد صفقة القرن جزءًا مما يجرى تنفيذه على الأرض يوميًا من مخطط التحول الثقافي العقائدي السياسي، وصولًا إلى كيان الولايات المتحدة الإبراهيمية التي تمتد من المحيط إلى الخليج.

لكن؛ ما هو الأخطر من كل ما مر أعلاه، هي النية المبيتة الحقيقية التي يريدها اليهود، منذ زمن النبي محمد (ص)، هو القضاء على الإسلام بصورة نهائية تمحوه من ذاكرة الأجيال القادمة، والذي سيمر عبر هذا المشروع الاستعماري الجديد، وهو هدم الكعبة المشرفة في مكة، حيث آل سعود المتواطئون منذ نشأتهم مع الصهيونية- اليهودية، عندما تتعالى الأصوات أن الحج إلى بيت الله الحرام يهدد أسس الديانة الإبراهيمية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد