حسن نعيم/ كاتب من لبنان
منذ فجر التاريخ، كان الأدب مرآة ذاتية للواقع، تتلون بتلاوين الرؤية الفنية التي يرى الكتّاب من خلالها الواقع المتمثل بإنسان يقاوم العوائق التي تحول بينه وبين تحقيق ذاته، والوصول إلى أهدافه، طموحاته في العيش بعزة وكرامة. وعادة تقدم الأعمال الأدبية نظرة الكتّاب والأدباء إلى هذه الظاهرة الإنسانية بأعمال أدبية تُعرف بــــ"أدب المقاومة".
لقد كان الأديب الفلسطيني "غسان كنفاني" أول من أطلق هذه التسمية في وصف الأدب الفلسطيني، في العام 1966ْ في دراسة بعنوان «الأدب والمقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966»، والتي كتبها قبل حرب يونيو/ تموز في العام 1967، ومن حينها باتت هذه التسمية تطلق على الأعمال الأدبية التي تتناول الفعل المقاوم كونه شأنًا إنسانيًّا عامًّا، وظاهرة عالمية لا يمكن إغفالها والتغاضي عنها عند الحديث عن تاريخ الشعوب ومعاناتها، وتجارب الحركات الثورية التي ترفض الإذعان للاحتلال.
سرعان ما وجدت هذه الأعمال المقاوِمة طريقها الى الأجناس الأدبية المتنوعة: الرواية، القصة، القصيدة، والمقالة، وبتنا نتعرّف إلى هذه الثورات من خلال أعمال أدبائها. لقد قرأنا الثورة الروسية بعين "انطوان تشيخوف" في روايته "الدون الهادئ"، والثورة الفيتنامية من كتاب "الأمريكي الهادئ" للروائي البريطاني جراهام غرين، والثورة الكورية من خلال رواية "أفعال بشرية" لــ"هان كانغ"، والحرب الإسبانية من خلال رواية "الأمل" لآندريه مالرو، والمقاومة الفرنسية مع رواية "صمت البحر" للكاتب جان مارسيل برولير. كذلك تعرّفنا إلى مأساة المنفى الفلسطيني عبر "رجال في الشمس" للأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني.
شرع هذا النوع من الأدب بتصوير المعاناة والظلم والقسوة والوحشية على يد المستعمر، في أعمال فنية، كان لها الدور الطليعي في التصدي للمستعمر كضرب من المقاومة التي كان لها الأثر الأكبر في حثّ الشعوب على رص الصفوف وبذل التضحيات والصبر على الشدائد، لكي تتحرر من نير الاحتلال.
لقد صوّرت هذه الأعمال التضحيات والبطولات لأناسٍ ضحوا بحياتهم في سبيل القضية التي يؤمنون بها، ويطمحون إلى بلوغها وهي التحرر من نير الهيمنة الإمبريالية الغربية، لا سيما على إفريقيا وأمريكا الجنوبية ومنطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط).
لقد دفع المثقفون الملتزمون قضايا شعوبهم، ثمنًا باهظًا لهذا الانتماء؛ مثل غسان كنفاني وناجي العلي من فلسطين، وتوماس بورج من نيكاراجوا، ودينيس بروتس من جنوب إفريقيا، وتحمّل هؤلاء مراحل طويلة من الاعتقال والتعذيب في سجون المحتلين، فقد قُتل غسان كنفاني وأميلكار كابرال وناجي العلي بوحشية على أيدي سلطات الاحتلال أو الحاكمة؛ فقد قتل كابرال في 20 يناير/كانون الأأول في العام 1973 بزعم إن عملية تصفيته قد جرت على يد منشقين من حركته يساندهم النظام البرتغالي، بينما فُخخت سيارة كنفاني واختطف فيكتور جارا من جامعة سانتياغو، وعُذب بوحشية ثم أُعدم في ملعب رياضي تحوّل إلى معتقل 1972.
مثل هذا المصير المتمثل بأقصى درجات الوحشية النفسية والجسدية لقي كُتّاب كثر، مثل "موليفو فيتو" مدرّس الدراما والأدب في جنوب إفريقيا الذي احتجز لمده تسعة أشهر في العام 1977، و"توماس بورج" من نيكاراجوا، بينما أُلقي القبض على "دومليتا باريوس دي شنجارا" مرتين من جانب السلطات البوليفية لمساهمتها في تأسيس لجنة زوجات عمال المناجم البوليفيين. ولقي كثير من الكتّاب مثل هذا المصير، وسلخ بعضهم سنين من حياتهم في السجن؛ حيث جرت إدانتهم لأسباب تتعلق بكتاباتهم أكثر من مشاركاتهم السياسية.
هذا فضلاً عن عقوبات النشر والطباعة التي طالت كتابات حملت هذا النضال التحرري، فقد انطوت كتابات المقاومة غالبًا على نتائج خطيرة على حياة الكٌتّاب الشخصية، وتخطت العواقب الملاحقة الشخصية لحياة الكُتّاب وممارسات سلطات السجن المتمثلة في الأغلب بأساليب المراقبة والاختبار والتفتيش والحبس الانفرادي، لتطال نتاجاتهم الأدبية فلاحقتهم قضايا وعقوبات النشر والطباعة.
هكذا صودرت معظم روايات المقاومة والتحرر، أو كانت متوفرة بشكل يصعب على القراء الحصول عليها، أو يتعذر اقتناؤها، وهكذا منعت روايات كنفاني في الأراضي التي تحتلها "إسرائيل" ولقيت المصير ذاته أعمال روائية كثيرة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية مثل رواية «أن ندفن آباءنا» و«يوم من الحياة".
مضت أيام، وتقلبت أزمان واستشهد من استشهد، وسجن من سجن ومات من مات من هؤلاء الكُتّاب، وبقيت أعمالهم وسيلة للتعبير عن الهوية الشخصية والعاطفة القومية، وأسلوبًا مهمًا لتعريف العالم بقضايا شعوب وأوطان لها تاريخ.. ولها كل الحق في التمتع بالحكم الذاتي والاستقلال، والإفادة من خيرات وموارد بلادها في عالم لا يفهم إلا لغة القوة؛ على حد تعبير سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله.