اوراق خاصة

التحرير في وطننا ثقافة مضادة لبنية الاستعمار ما بعد الكولونيالي..

post-img

د. زينب الطحان/ موقع "أوراق"

سؤال حضاري محير وقديم هو: ماذا كان دور الثقافة في نشأة الإمبريالية والاستعمار منذ القرن التاسع عشر؟ وماذا كان دور الثقافة كذلك في مقاومة تلك الإمبريالية وذلك الاستعمار إبان معارك التحرير من المغرب العربي والشام ولبنان ومصر إلى الهند إلى فيتنام إلى إفريقيا السوداء؟

سؤال آخر؛ وهو أيضًا، حضاري وقديم هو : ما دور النخب الثقافية في تفكيك ثقافة الاستعمار بعد اندحاره من بلدانهم التي تحررت بدماء الثوار والشهداء والمقاومات؟

يستتبع السؤال الأخير سؤال ثالث : لماذا تؤاطأت نخب ثقافية محلية مع ثقافة ذلك الاستعمار؟

هذه أسئلة سبق أن طرحها جامعيون ومثقفون متميزون من كل أنحاء المعمورة، حاولوا الإجابة عنها، لكن بصورة منفردة ومتفرقة لم تعط هذا الموضوع ما يستحقه من درس وتمحيص وتعمق؛ ولم يخصص له أحدهم كتاباً مفصًلًا في هذا الجانب العميق من الثقافات الوطنية. السبب هو أن المؤرخين، في جملتهم، أولئك الذين أرّخوا لاستقرار الإمبراطوريات، كانوا مؤرخين بالمعنى التقليدي، أي القائمون بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي لحركات التاريخ وتحولاته الكبرى، من دون العناية بالعامل الثقافي شديد الأهمية. وذلك؛ لأن الثقافات هي ضمائر الأمم وذاكرتهم وصانعة المخيلة الجماعية ورد الفعل الشعبي. الثقافة عمل، وهي تؤدي وظائفها بأدواتها المعروفة الظاهرة؛ مثل الأدب والفن والتربية، وبأدواتها الخفية الباطنة مثل الفلسفة والتاريخ والدعاية والإعلام والتراث الشعبي.

لذلك يقول إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني- الأميركي الراحل إن الإمبريالية استقرت بالثقافة، واهتزت أركانها بالثقافة المقاومة. وهو صراع بين الأمم الغالبة والأمم المغلوبة بمفهوم العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون، فالأمم الغالبة التي أباحت لنفسها حق احتلال أمم مغلوبة وقهرها وإذلالها استعملت الثقافة الإمبريالية؛ إما لتسويغ طغيانها أو لتمرير مخططاتها، أما الأمم المغلوبة فلم يأت تحريرها إلا بأدوات مقاومة الاستعمار والمطالبة بالاستقلال.

في حين؛ كانت بعض النخب الثقافية منحازة بالعمق، في التجربة والسلوك والتخطيط المعرفي، إلى ثقافة الاستعمار الذي احتل بلدانها، وبقيت نشطة في الساحات الثقافية في دائرة تحويل شعوبها نحو هوية كولونيالية، بمعنى ترسيخ التبعية لثقافة ذلك المستعمر، في اللغة والأداء الثقافي ومفاهيم القيم وتبني إيدولوجيات بديلة تلغي المركزية الفكرية والعقدية لتاريخ عريق يعود زمنه إلى مئات السنين.. هذا ما يُعرف بوجود القوى المؤسسية والثقافية التي منحت ديمومة للنفوذ الكولونيالي ما بعد زوال الاستعمار العسكري.

يمثل لبنان أنموذجًا بارزًا، في هذا السياق؛ وحتى قبل الاستعمار الفرنسي وتأسيس "دولة لبنان الكبير"، حين قدمت الإرساليات التبشيرية الغربية، وفي مقدمتها الفرنسية، إلى ربوع جبل لبنان ما قبل القرن التاسع عشر بعشرات السنين في ظل ما حصلت عليه من امتيازات من السلطنة العثمانية، فبنت مؤسسات تعليمية كبرى أنشأت نخبًا ثقافية، في مراحل لاحقة، وكان عمادها اللغة تحت قناع "التعليم الليبرالي"، بما تعنيه من ثقافة ورؤى وقناعات وتطلعات. لقد وجد المبشّر الفرنسي اللغة مفتاحًا لــ"فتح" البلد بأسلوب ناعم يضمن عدم رفضه من النسيج الاجتماعي. هذا ما يؤكده بول هوفلان، وهو أستاذ كلية الحقوق في جامعة «ليون» الفرنسية في العام 1919، بقوله الشهير: "إن تعليم الناس لغتنا، لا يعني ألفة أفواههم وآذانهم للصوت الفرنسي، بل يعني فتح نفوسهم على الأفكار الفرنسية وعلى العواطف الفرنسية، وأن نجعل منهم فرنسيين من ناحية ما... هذه السياسة تؤدي إلى فتح بلد بوساطة اللغة".

كما يعد احتلال الجزائر إحدى حلقات الحروب الصليبية للعالم الإسلامي؛ وهذا لا يمكن إخفاؤه أو إغفاله فالأحداث التاريخية تثبت ذلك، منذ أن وطأتها أقدام الاستعمار الفرنسي صاحبتها أعمال تبشيرية كانت تريد من جعل الجزائر قلعة غربية- صليبية، وإن أول مظهر هو ذلك الطلب الملح من وزير الحربية الفرنسية كلير مونت طونير للسير في حملة لغزو الجزائر بعد حادثة المروحة، ونقتطع منه هذا المقطع : "... إن العناية الإلهية سمحت بأن تستأسد لجلالتكم للانتقام في الوقت نفسه للدين والإنسانية، وسوف نكون سعداء بمرور الزمن عندما نحضر الجزائريين بتنصيرهم مسيحيين".  ما حدث هو أن تدهورت أوضاع الجزائريين أكثر فأكثر فأصبحوا يعيشون في عزلة عن حضارتهم العربية والإسلامية عندما تأزمت هويتهم الوطنية وتشرذمت بفعل صراع مع النخبة الفرنكوفونية الناطقة بالفرنسية والمتعالية على شعبها..

إذ عدنا إلى لبنان؛ واستقرأنا ذلك التاريخ الذي انتشر فيه المبشّرون الغربيون، نرى كيف ازدادت النعرات الطائفية حتى تحوّلت إلى تناحر وحروب، منطلقاتها الانتماء إلى هويات مختلفة؛ وجهدت تلك النخب إلى استقدام الاستعمار الفرنسي طلبًا للاستقلال عن سوريا الكبرى، فانحازوا إلى فرنسا وانكفأوا على خصوصيتهم مؤكدين تمايز لبنان واختلافه عن محيطه العربي. وعندما أعلنت "دولة لبنان الكبير"، في العام 1920، تبلورت هذه النزعة وعبرت عن نفسها في "المجلة الفينيقية" التي كان يصدرها بالفرنسية الشاعر شارل قرم أحد منظري "القومية الفينيقية". تأزمت مع تلك الأحداث أزمة الهوية الوطنية؛ ووُصنّف المقاومون والثوار العرب واللبنانيون الذي يقاتلون الاحتلال الفرنسي في ربوع لبنان وسوريا بــــ" العصابات" و"قطّاع الطرق" هذا ما كنا نقرأه في كتاب التاريخ المدرسي في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة؛ بينما كان عرّابو الاستعمار من أرباب الطبقة البرجوازية الاقطاعية من الطوائف الأخرى هم الأبطال الذين أسسو "لبنان الحديث".

ما يزال التاريخ هو نفسه في لبنان؛ في ظل الاحتلال الإسرائيلي؛ بعد التحرير في العام 2000؛ رفضت تلك النخب الاعتراف باليوم الخامس والعشرين من أيار عيدًا ثانيًا للتحرير؛ بل هي تعدّ يوم مقتل رئيس الكتائب بشير الجميل، أبان الحرب الأهلية في الثمانينيات من القرن الماضي، يومًا داميًا قتل فيه حلمها بـــ"لبنان الإسرائيلي"؛ حين فجّر حبيب الشرتوني المقاوم القومي المبنى الذي كان يجري فيه انتخاب الجميل رئيسًا للجمهورية اللبنانية مدعومًا من وزير حرب العدو "أرئيل شارون" ومحمولاً على الدبابة الإسرائيلية التي وصلت إلى العاصمة بيروت.. فأي مفارقة في انتماءين يحملهما هذا "لبنان" ..؟

إلى اليوم؛ ما يزال الصراع على الهوية والانتماء، ما بعد زوال الاستعمار الفرنسي وما تبعه من احتلال إسرائيلي، هناك من يدافع عن هوية لبنان الكولونيالية؛ لا يريد إلا الثقافة الإمبريالية التي تسيّدتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، لذلك ترى هذه الاستماتة المذلة تحت نعال مجرد مساعدة في السفارة الأمريكية في عوكر.. والتي تطالب بكل فجور ووقاحة بنزع سلاح المقاومة..هو ذاك التاريخ نفسه مع الاحتلال الفرنسي حين وصف الجنزال ديغول البطل العاملي أدهم خنجر باللصّ والمخرّب..!

إلى اليوم؛ ما يزال الأحرار في هذا البلد يتابعون حفر هوية لبنان العربي المقاوم الأصيل لتاريخه المشرقي والإسلامي؛ وما تزال العقيدة ذاتها عند أجياله مع كلّ تحرير يحققونه من نير الاستعمار والاحتلال..وما تزال ثقافة هذا التحرير، ثقافة المقاومة، هي البوصلة الثقافية المضادة التي تقف رأس حربة ضد بنية الثقافة الكولونيالية بجذورها الاستعمارية منذ أيام الصليبيين ..

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد