اوراق خاصة

شِعب مكّة… حين تتحوّل العزلة إلى حاضنة مقاومة

post-img

الشيخ سامر عباني/باحث إسلامي

في عصور التغيير الجذري لا تُقاس الحركة السياسية بعدد أنصارها، بل بصلابة وعيها وقدرتها في تحمّل الحصار من دون أن تفقد بوصلتها. من هذا المنطلق، يمكن قراءة حصار قريش للنبي محمد (ص) وبني هاشم في شِعب مكّة، لا بصفتها مأساة إنسانية، إنّما كونها واحدة من أكثر التجارب عمقًا في التاريخ السياسي الإسلامي، حينما اجتمعت قوى النظام القائم آنذاك على إطباق الطوق حول المشروع التغييري الصاعد، فكانت النتيجة عكسية: الحصار صار حاضنة، العزلة تحوّلت إلى غربلة، السقوط الذي توقّعوه تحوّل إلى صعود.

قبيلة قريش لم تفرض الحصار لتنتصر عسكريًا، هي فرضته لتكسر الإرادة وتزرع اليأس، وتعزل النبي عن مجتمعه. في سبيل هذا الهدف؛ هي علّقت وثيقة على الكعبة تقضي بمقاطعة شاملة: لا بيع، لا شراء، لا زواج، لا كلام. والهدف، إلى جانب الخنق المادي، تركّز في الحصار الرمزي: تجريد الجماعة المؤمنة من أي شرعية اجتماعية أو سياسية، وتحويلها إلى ظاهرة خارجة عن النسيج العام.

كما لم تُنقذ قريش سلطتها بالحصار، في ذلك الزمن الغابر، كذلك لن ينقذ النظام الدولي نفسه، اليوم، من مأزقه السياسي عبر إجراءات العقوبات والعزل الذي يمارسها ضد الجمهورية الإسلامية في إيران.

إذ حين تتحوّل أدوات الهيمنة إلى محرّكٍ للوعي، وتتحوّل الجدران إلى منابر، ويصبح الحصار بوابة لعبور الأحرار إلى التاريخ، فلا بدّ أن الإرادة التي لا تُكسر والصمود الذي لا يلين، هما البوصلة الحقيقية التي تفتح الطريق نحو الانتصار.

من تعلّم من درس حصار مكة، وتعمّق بفهم كيف يُصنع الصمود من رحم المحنة، يستطيع أن يتخطى أصعب أنواع الحصار، ويحوّل العزلة إلى منارة، والضيق إلى انطلاق، فالمقاومة ليست فقط في المواجهة بالسلاح، هي في القدرة على الصبر، والتجديد، والتعلّم من التاريخ ليُكتب حاضر جديد.

بحسب ما ورد في التاريخ، كان النبي (ص) في قلب هذا الحصار، يشارك المسلمين معاناة الجوع والبرد والصعوبات بكل ثبات وصمود, لكن في الوقت عينه، كان هذا الحصار لحظة فرز عميق، بين من صمد وواصل وبين من تراجع وانكفأ.. تمامًا كما تفعل التحديات الكبرى في مسارات التحرر السياسي.

اليوم، حين ننظر إلى المشهد الإقليمي والدولي، لا يصعب أن نرى وجوهًا مشابهة لذلك الحصار القديم. المشهد الذي واجه فيه النبي (ص) قوة مجتمع كامل، متحالفة لإسكات الصوت المختلف، يتكرّر بأشكال متطوّرة:

  • غزة المحاصرة منذ 17 سنة، محكومة ببحر مغلق وحدود مغلقة وخنادق دولية، لا بسبب سلاحها فقط؛   إنما لامتلاكها فكرة المقاومة والخروج عن الطاعة الدولية.
  • إيران ترزخ تحت أعتى منظومات الحصار الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي، مع أنها لا تشكّل خطرًا وجوديًا فعليًا على الغرب، لكن السبب هو رفضها الخضوع، والنموذج المختلف الذي تبنيه.
  • حركات المقاومة، في لبنان والعراق واليمن، تعاني بسبب الحصار السياسي: تشويهًا إعلاميًا، عزلًا دوليًا، لأنها لا تلتزم بالسردية التي فرضها النظام الدولي بعد العام 2003.

تمامًا كما علّقت قريش صحيفتها على جدار الكعبة، تُكتب اليوم قوائم العقوبات، وتُصاغ قرارات العزل، وتُمارس الحرب الناعمة والخشنة، بهدف إعادة هندسة من يقف خارج النسق المفروض. لكن التاريخ يقول، وتجربة شِعب مكّة تؤكد: الحصار لا يقتل المشروع، بل يختبر جدارته.

هناك دائمًا افتراض عند الأنظمة المهيمنة، أن من يُعزل يُقصى، وأن من يُحاصر يُنهك. لكن حصار مكة أسّس لخلاف ذلك تمامًا. خرج النبي (ص) من الحصار وقد اشتدّ عود أصحابه، وتطهّرت صفوفه من المتردّدين، وصار المشروع أكثر رسوخًا.

في التحليل السياسي، هذه لحظة نادرة: عندما تتحوّل العزلة إلى مختبر بناء داخلي.. عندما يصبح الحصار مدرسة للإنتاج الذاتي، ويصبح الفقر وقلة الموارد أداة لخلق الاكتفاء والتحوّل.

مما تقدم؛ نفهم لماذا لا تسقط غزة على الرغم من الحصار، ولماذا تتوسّع دائرة تأثير إيران على الرغم من العقوبات، ولماذا تبقى المقاومة في لبنان عصيّة على الاحتواء السياسي: لأن الحصار لم يَقتلها، بل ربّاها.

إن أحد أهم الدروس التي تُسقط من تجربة شِعب مكّة، هو أن الشرعية لا تُمنح من القوى المسيطرة، بل تُنتزع بالصمود. قريش أرادت سحب الشرعية الرمزية من النبي(ص) بالمقاطعة، لكنها حين رفعت الحصار، وجدت أن شرعية محمّد لم تعد بحاجة إلى اعتراف، بل إلى حركة.

هذا الفارق بين الشرعية الاستعراضية التي تُبنى على الاعتراف الدولي، والشرعية الجوهرية التي تُبنى على الثبات والمصداقية.

إذا شئنا تعميق هذا المعنى في مشهد اليوم؛ ستتضح جملة من الأمور:

  • "إسرائيل" تملك اعترافًا دوليًا واسعًا، لكن صورتها المصطنعة في أنها "دولة قانون" بدأت تتآكل.
  • واشنطن تُنظّم التحالفات، لكنها تفشل في فرض سردية مقنعة في الشارع والرأي العام العالمي.
  • الخطوط التي كانت مغلقة ومعزولة جيوسياسيًا تتحوّل إلى خطوط معنوية ممتدّة.

التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يُسقط ظلاله على من يفهمه. وشِعب مكّة ليس صفحةً من الماضي، هي نموذجٌ استراتيجي يُقرأ في سياق أنواع الحصار الحديثة، ويُنير طريق الفاعلين خارج النسق الدولي.

من يُحاصر خصمه، يُعلن خوفه من فكرته.

من يصمد في الحصار، يُعلن استحقاقه للنصر.

لهذا، لم يكن شِعب مكّة لحظة انكسار… بل كان لحظة الولادة الحقيقية لمشروعٍ وُلد تحت القيد، لكنه تمدّد، وتحوّل لاحقًا إلى دولة، ثم إلى تجربة، ثم إلى وعي.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد