لم تقتصر أعمال "تحوّلات السرد العربي في العصر الرقمي" على الموضوعات التي فرضها عنوان الملتقى، بل جاءت الجلسات تحليلًا نقديًا للسياقات الأدبية، وللواقعَين الاجتماعي والسياسي في البلدان العربية. ولعل في ذلك ما يبرّره؛ نظرًا لجدة الموضوع، وتعدّد مشاغل الرواية العربية وأزماتها الراهنة.
انعقد الملتقى على مدى ثلاثة أيام، واختُتمت أعماله السبت الفائت في عمّان، ضمن فعاليات مهرجان جرش للثقافة والفنون. وقد حمل اسم الروائي الأردني الراحل جمال ناجي (1954–2018)، وضمّ تسع جلسات شارك فيها روائيون وأكاديميون من مصر، والسعودية، وسورية، والكويت، وقطر، والإمارات، والبحرين، إلى جانب الأردن.
تناولت معظم الجلسات العصر الرقمي، مع إدراك المشاركين أن العنوان يمثل تساؤلًا أكثر منه واقعًا متحققًا. فجاءت كثير من المشاركات أقرب إلى افتراضات أو محاولات لاستشراف المستقبل، وسط شعور عام بأن الزمن الرقمي يتجاوز الثقافة العربية في حاضرها اليوم.
التحوّلات الجديدة في الرواية العربية
من أبرز السمات التي طُرحت، تحوّلات الرواية لدى جيل الشباب في سياق الحراك الشعبي. قرأت الروائية والأكاديمية السورية شهلا العجيلي هذا الحراك وما أنتجه سرديًا، ضمن مقاربة تستند إلى نظرية الرواية، وزمن ما بعد الحداثة.
رأت العجيلي أن الرواية والعصر الرقمي ضدّان، إذ ينفي الثاني مقومات الأول كالفردية والحرية. وقدمت تصوّرًا للعالم الرقمي عبر نظرية "القبائل الجديدة"، أي الجماعات التي تتشكّل حول أنماط أو مشاعر أو رموز، ويمكن أن تلتقي حول قضايا كالثورات والأدب والنسوية. وخلصت إلى أن الروائي فقد استقلاله لصالح جمهور رقمي يفرض عليه مواقف وهويات جماعية. وأشارت إلى أن جيل الكُتّاب الشباب، المتأثر بثورات الربيع العربي، كتب في فضاء رقمي يعيد تشكيل معنى الكتابة والانتماء، فجاءت نصوصهم ديستوبية أو رومانسية بلغة عنيفة ومشوّهة، تعكس خذلان ما بعد الثورة.
أما الروائي والناقد السوري نبيل سليمان، فقد انطلق من الرواية السورية في السنوات الأخيرة، وعمّم استنتاجاته على الرواية العربية المكتوبة خلال العقد الأخير. وحدّد أبرز سماتها لدى الجيل الجديد: الجدية في التجريب، والبناء المركب، وديناميكية الشخصيات، والتفاعل مع الفنون، والاشتغال على التاريخ والواقع الاجتماعي.
في مشاركته، تناول الناقد والأكاديمي المصري خيري دومة "الزمن الرقمي" من داخل نظرية الرواية، مستندًا إلى ثلاث مقولات: موت الكاتب، وموت الناقد، وانفجار الحديث. واعتبر أن هذه التحولات قادت إلى الكتابة الآلية أو الجماعية، عبر أفكار التعدّدية وتفكيك مركزية المؤلف، كما أفضت إلى تراجع دور الناقد المثقف العام، لصالح "جيش من المراجعين والمدونين والنقاد اليوميين والوكلاء والمروجين". وأوضح أن الجمهور، الذي كان يومًا غير مرئي، أصبح اليوم فاعلًا في تشكيل هوية الكاتب وخياراته، ضمن فضاء متداخل تقوده جماعات جديدة تملك القوة والرغبة في المشاركة.
زمن الذكاء الصناعي
في الجانب التقني للكتابة، ناقشت أوراق بحثية عدّة دور الذكاء الصناعي بوصفه راويًا، ومؤلفًا، ومترجمًا. خلص الأكاديمي المصري منير عتيبة إلى أن نصوص الذكاء الصناعي تفتقر إلى المتعة، كما تفتقر إلى الأخطاء، ما يعزّز فكرة أن المتعة الأدبية تنبع من الجهد الإنساني بكليّته.
في حوار بين عتيبة والذكاء الصناعي، توصّلا معًا إلى قناعة بأن هذا الأخير غير قادر على التقاط روح النص الإبداعي، واقتصرت مهاراته على الترجمة التقنية للنصوص القانونية.
من زاوية أخرى، روت الروائية العُمانية بشرى خلفان تجربتها الإبداعية مع "السيد تشي" (تشات جي بي تي)، إذ طلبت منه أن يكتب قصة عن طفلة غزّاوية تخرج من تحت الأنقاض حاملةً قطتها. بدا من مراجعاتها المتكررة للنص أنها تخوض معه ورشة كتابة، وانتهى الأمر بأنْ سألته عن سبب عجزه عن إنتاج نص حقيقي، ليجيب: "نصوص الذكاء الصناعي هي ظلال للنصوص البشرية، قد تلمع أحيانًا، لكنّها بلا حرارة".
عن تجربة جمال ناجي
إلى جانب النقاشات الرقمية، ناقشت الجلسات موضوعات تقليدية ترتبط بمدن وأزمنة عايشها القارئ العربي. قدّم الأكاديمي الفلسطيني إبراهيم أبو هشهش قراءة في علاقة التجربة الحياتية للكاتب بمنتجه الأدبي، مستلهمًا تجربة الروائي الفلسطيني أحمد حرب (1951–2025)، الذي شكّلت هزيمة 1967 الإطار الزمني والاجتماعي في روايته الصعود إلى المئذنة، وسيرته مواقد الذكرى.
مهرجان جرش وأسئلة غزة
عدد من الأوراق قدّم صورة متقطعة للزمن العربي، عبر القفز بين محطات النكبة، والهزيمة، والإبادة، نتيجة الحروب الإسرائيلية المتواصلة. حتى في الجلسة الافتتاحية، التي عرض فيها الأكاديمي الأردني نبيل حداد مقاربة موسوعية لتجربة جمال ناجي، ظل الفضاء المشترك لعدد من أعماله يدور حول المخيّمات الفلسطينية في الأردن، وفلسطين قبل النكبة.
لا تُقرأ أعمال الملتقى، التي شملت 32 متحدثًا، جزءًا من مساهمة رقمية بحتة، بل بوصفها مساهمة في نقد الرواية العربية وتطور سردها. وقد خلصت التوصيات إلى أهمية دعم النقد، عبر تأسيس مختبر للسرديات العربية، ومتابعة الإنتاجات الروائية، إلى جانب اعتماد الملتقى حدثًا سنويًا، وإطلاق جائزة تحمل اسمه.