اوراق خاصة

تحولات عسكرية وأمنية وضعتها "فينوغراد" بعد هزيمة الكيان في حرب 2006

post-img

فادي الحاج حسن / كاتب لبناني

شكّل تقرير "لجنة فينوغراد"، والذي صدر عقب عدوان تموز 2006 على لبنان، نقطة تحول جوهرية في تطور عقيدة الكيان الصهيوني الأمنية والعسكرية. إذ لم يكن التقرير مجرد تقويم لنتائج حرب انتكاسية فحسب، لقد كان إنذارًا واضحًا أشار إلى أوجه قصور بنيوية في قيادة جيش الاحتلال العسكرية وضعف في التنسيق العملياتي، وفشل فادح في معادلة الردع التي شكّلت عامودًا فقريًا لسياسة الكيان منذ عقود.

على هذا الأساس، كان "تقرير فينوغراد" مرتكزًا أساسيًا لإعادة تفكيرٍ شامل في إستراتيجية الكيان الصهيوني الأمنية والعسكرية، وتحول عقيدته االعسكرية من ردع تقليدي بسيط إلى استراتيجية مركبة تهدف إلى فرض تكلفة عالية على القوى المقاومة، مع تحميل الدول والمجتمعات المناهضة للاحتلال مسؤولية تصعيد الأزمة، وفي الوقت نفسه إبراز أولوية بقاء الكيان هدفًا استراتيجيًا على رأس الأولويات.

هذه التحولات، والتي استُهلت بعد 2006، شهدت تجليات واسعة في تطوير قدرات الكيان العسكرية والتكنولوجية، مع دمج الأبعاد الاجتماعية والدينية بشكل مكثف في صلب فكره العسكري والسياسي، ما جعل من "تقرير فينوغراد" حجر الزاوية لفهم التحولات الكبرى في مسار سياسة الكيان العسكرية والأمنية إلى يومنا هذا، ولا سيما في سياق عدوانه المتكرر على غزة ولبنان في الأعوام الأخيرة، خصوصًا بين 2023 و2025.

بعد حرب 2006.. من ردع تقليدي إلى فرض تكلفة استراتيجية

بعد حرب تموز 2006، دخلت العقيدة الأمنية الصهيونية مربع إعادة التقويم الجذري لما كانت عليه السياسات العسكرية السابقة. تحول من اعتماد يقوم أساسًا على ردع تقليدي مبني على القوة والإرهاب العسكري المباشر إلى استراتيجية أكثر شمولية وترتكز، بشكل أساسي، على فرض تكاليف كبيرة ومباشرة على حركات المقاومة والفصائل المقاتلة وأطراف دعمها الإقليمي.

واحدة من أبرز سمات هذا التحول هو ما يمكن تسميته بـ"عقيدة التكلفة الباهظة" التي تعطي أولوية لاستهداف القوى المقاومة، في إجراءات تشعبت وامتدت إلى عقوبات اقتصادية صارمة قامت بها الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى ممارستها ضغوط مكثفة في السياسية والدبلوماسية على الأطراف الداعمة لهذه القوى والمجتمعات التي تتحمل مسؤولية الدفاع عن أراضيها. وهذا التوجه كان واضحًا في سياسات الولايات المتحدة أزاء لبنان وحكومته وشعبه لتدفيعه ثمن انتصار المقاومة الذي قلب معايير الصراع، حين انكشفت حقيقة الكيان الهشة خلال حرب تموز 2006.

لذلك قامت العصابات التي تقود كيان الاحتلال بتطور مناهجه العسكرية والأمنية، وهذا ما تبين في عدوانه على  قطاع غزة، عقب عملية "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)؛ إذ لم يكن متوقعا أن يخوض حربا تستمر لشهور، بخلاف عقيدته السابقة التي كانت قائمة على مبدأ سرعة الضربة في أيام معدودة. لقد اعتمد العدو نهج التصعيد في القصف المكثف والحصار الشامل، واستهداف ممنهج لقادة المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، فضلًا عن سعي ممنهج آخر لتفكيك بنية المجتمع المقاوم الاجتماعية والسياسية. هذه الاستراتيجية عرفت، في بعض دوائر الخبراء، باسم "عقيدة الضاحية"، والتي تحمّل الدولة المستهدفة المسؤولية الكاملة عمّا يجري على جبهتها، وأن رده العسكرية لا يستثني الأهداف المدنية والاجتماعية.

الأهمية الميدانية تكمن في أن هذا التحول في رؤيته العسكرية، يعكس رؤية صهيونية جديدة تقوم على أنه لم يعد بإمكانه الاكتفاء بالحملات العسكرية المتدرجة أو اعتماد الأسلحة السابقة، لقد باتت المعركة تراوح بين مسارات ميدانية وأخرى نفسية وسياسية، مع تركيزه على إقامة ردع متوازن مع قوى المقاومة فيفرض عبء المعاناة على المجتمعات التي تدعمها، بهدف كسر أي ارتباط استراتيجي لهذه القوى مع جمهورها.

عقيدة بقاء الكيان والأبعاد الدينية

في جانب آخر؛ تقرير فينوغراد لم يتناول صراحة البعد الديني في عقيدة الكيان الأمنية، إلا أن التطورات التي تلته أكدت بروز خطابات دينية قومية تعزز التشغيل السياسي العسكري وتسوّغ العمليات العدوانية برؤى وجودية. لقد أصبح الصراع وجوديًا من أجل بقاء "الدولة الصهيونية" الغاصبة والدموية؛ وهو خطاب يزداد تعقيدًا وتطرفًا في أوساط قياداتها السياسية والعسكرية، حيث تُوظف الشعارات الدينية، مع أنها قائمة على أساطير، كي يجد المستوطن علاقة تربطه بما يسمونه "أرض الميعاد".

هذا التحول في الكيان لا يقف عند حدود الاستعلاء السياسي، يمتد ليعكس أيديولوجيا استعمارية متجذرة تشكل القاعدة الراديكالية للعقيدة العسكرية، حيث تتماهى القيم الدينية مع رؤية ضيقة فرضتها الولاءات الفصيلية "القومية"، والتي هي بحد ذاتها منذ إنشاء الكيان متطرفة. الأمر الذي يجعل من الدين عاملًا محوريًا في تأكيد شرعية الاستعمار واستمرار الاستيطان والعدوان، على حساب مبدأ القومية أو الشعور الوطني الفلسطيني والعربي الأوسع. فضلًا عن تفعيل البُعد الديني في الخطاب العسكري والسياسي لدعم حملات العدوان الأخيرة، خاصة في العدوان الموسع على غزة في 2023 ولبنان في العام 2024، والذي ما يزال مستمرًا حتى اللحظة.

تقدم الكيان التكنولوجي وتطوره العسكري في ضوء توصيات "فينوغراد"

استجابة لتوصيات "تقرير فينوغراد" وبرهانه على قصور العمل العسكري التقليدي، شهدت عقيدة العدو الأمنية الصهيونية تحديثًا عميقًا لمنظومات القدرات العسكرية والتقنية، مع التركيز على استخدام الطائرات المسيّرة بشكل واسع وتقنيات الذكاء الصناعي والاستطلاع الجوي والهجمات السيبرانية. تظهر هذه التطورات بشكل واضح في العمليات التي شملت ضربات جوية مكثفة على بنية المقاومة التحتية والحيوية والعسكرية، إلى جانب الحصار الذي يستخدم التكنولوجيا لتعزيز فعاليته.

كما أن توسع اعتماد العدو على العمليات غير المباشرة والرقمية يعكس أيضًا قدرته على تأمين تفوق استراتيجي يقلل من الكلفة البشرية لقواته، ويتماشى والرغبة في الحؤول دون وقوع اشتباكات برية واسعة ومكلفة. وهذا التطور يمثل تأكيدًا عمليًا على توصيات فينوغراد التي دعت إلى تغيير جذري يبني على تحقيق التفوق النوعي لا الكمي فقط، وهو ما شكّل أحد أهم مقومات العدو الاستراتيجية المتجددة، منذ العام 2006 وحتى الآن، معززة بحملات ردع ذكية ومتجددة في إطار الحروب غير المتكافئة التي يخوضها ضد المقاومة.

تأثير البيئة الإقليمية وتغير موازين القوى

تنوعت ديناميكية البيئة الإقليمية، منذ العام 2006، مع تزايد نفوذ الفصائل المقاومة في المنطقة، وخاصة في غزة ولبنان، إلى جانب الدعم الإيراني. هذا التبدل شكّل عاملًا مضافًا دفع بالقيادة الصهيونية إلى إعادة صياغة أعمق لاستراتيجيات القتل والاعتداء، فتحولت العقيدة الأمنية إلى مزيج لا يقتصر على القوة العسكرية فقط، يشمل تصعيدًا سياسيًا ودبلوماسيًا يعزز موقع الكيان ويحتوي تحديات المقاومة.

اليوم؛ الكيان يواجه معطيات معقدة تتطلب استمرار تطوير منظوماته لتحقيق "الردع"؛ بحيث تبقى هذه الأخيرة مرنة ومتوازنة بين العنف الميداني باستهدافه المدنيين بوحشية غير مسبوقة في التاريخ الإنساني وبين الضغط السياسي، فيما يستمر أيضًا تحديث قدراته القتالية وتكثيف الإجراءات الأمنية المختلفة لمنع التمدد الإقليمي للمقاومة، حتى في ظل هشاشة بعض جبهاته الداخلية والخارجية.

يمكن القول إن "تقرير لجنة فينوغراد" شكّل نقطة انطلاق رئيسة في إعادة تشكيل عقيدة الكيان الصهيوني الأمنية والعسكرية، حيث أدى إلى تحول عميق من قدرات عسكرية تقليدية مبنية على فرض الردع المباشر، إلى استراتيجية شاملة تعمل على فرض تكلفة مرتفعة على قوى المقاومة، وتشمل أبعادًا سياسية ودينية وتكنولوجية جديدة. هذه العقيدة التي تستند إلى أولوية بقاء الكيان فوق أي أولوية آخرى، تمثل إطارًا ناظمًا للعمليات العسكرية المتواصلة ضد غزة ولبنان حاليًا، منذ العام 2023،، إذ تبين مستوى متقدمًا من التنسيق بين المناهج العسكرية والتقنيات العسكرية الأكثر تفوقًا باستخدامها تنكولوجية الذكاء الصناعي؛ بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل بيئة إقليمية مضطربة ونفوذ متزايد لقوى المقاومة التي تشكّل اليوم التحدي الأبرز للكيان.

بهذه الصورة، تستمر عقيدة الكيان الصهيوني في التطور متسمة بدمج عوامل القوة التقليدية والتكنولوجية، ومثبتة تحالفها مع خطاب "ديني قومي" هو في أساسه متطرف وعدواني ليؤكد "شرعية" بقاء كيانه الاستيطاني كقوة استعمارية في المنطقة، في مواجهة متجددة ومتصاعدة مع مقاومة تدافع عن حقها وكرامتها تحت أعباء الاحتلال والعدوان.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد