موسى السادة/جريدة الأخبار
إنّ ما يقوم عليه، وينجح فيه، مشروع «إسرائيل الكبرى» هو إقامة نطاق جغرافي أوسع مما بين النيل والفرات، لا رجولة فيه، هي أرض بلا رجال. قد يوسم هذا الطرح بالذكورية من البعض، وقد يراه الآخر محاولة استنفار لعصبية الرجولة والفحولة، واستفزازها على أمل أن تستنفر فعلًا، إلا أني أؤكد أن ليس هذا هو الهدف. فما لم تستنفره أجساد نسائنا وأطفالنا المقطعة لن تستنفره بضع من الكلمات. بل إن ما أدعيه هو طرح لمفاهيم الرجولة والرجال منطلقة من منطق مختلف.
سيحاول الصهاينة احتلال وفرض وجود عسكري مادي، وحتى استيطاني، على مساحات جغرافية تطل على عاصمتنا دمشق وعلى ما بعدها حتى الفرات. إنما المنطق الأساسي من «الكبرى»؛ هو ذلك الحيز الجغرافي والاجتماعي الساقط سياسيًا وعسكريًا وأخلاقيًا ولا تاريخ فيه سوى تاريخ الآخرين على أرضنا. وهنا، في هذا الحيز اللا-سياسي، تسقط السياسة من الوصف الفلسفي للإنسان بـ«الحيوان السياسي» وما يتبقى سوى «الحيوان».
مجددًا، ليس الأمر بالمبالغة أو محاولات الاستفزاز، بل توصيف يلتمس الموضوعية، حيث تمسي أرضنا مجرّد حديقة حيوانات، مسورة بأقفاص الحدود، وما همُّ قاطنيها من البشر سوى دائرة الاستهلاك وإشباع الغرائز أو القتال عليها، وما حراسها سوى النظام الرسمي العربي القديم والوافدون الجدد عليه.
إنّ حديقة الحيوان هذه فضاء يغيب عنه مفهوم الاجتماع، تلك القيم الأخلاقية المشتركة، والتي لها حرمة، وتجسّد لحمة واحدة لمجموعة من البشر، وعملية صونها والقرار حولها همّ موحّد. كانت مسألة تطوّر المجتمعات في إنتاجها منظومة قيمية وأخلاقية تبجّلها وتحترمها. في البدء أتت على شكل الأديان. لم تتناسخ المجتمعات القديمة لبلاد الرافدين سوى بمقدار تطور هذه المنظومة والاعتزاز بها، ونبذ وتحقير ما قبلها، فلكل «جاهليتها» إلى أن تنتكس وتتدهور من جديد.
المفارقة، أن تفاهة خيال الصهيونية يظهر اليوم في التعامل مع المنطقة وكأن الثورة المحمدية لم تكن. طالما سبّب محض وجود شخصية النبي العربي أزمة للمستشرقين، إنما أزمة الصهيونية معها في أن خيالهم للمنطقة يقوم مسرحه على تصوّر ينسب إلى آلاف السنين من الحكايات. يحاول نتنياهو مخاطبة الإيرانيين بالتماس ملك كوروش، وتنظر الصهيونية إلى شعوب المنطقة عبر «هويات متاحفها» لا مجتمعاتها وتراكمها التاريخي، وتعمل على إجبارنا على صنع قطيعة معه والانتكاس إلى جاهليات.
المسألة هنا ليست مجرّد خطأ تاريخي، بل تكمن في مشكلة الصهيونية مع منظومة الأخلاق العربية وتراثها ورؤيتها لذاتها. ذلك الخزان التاريخي الذي تراكم بشكل متسارع منذ الإسلام، من مكانة كعبة محمد بن عبدالله إلى تاريخ الأزهر، أي ما حاول الرفيق جورج عبدالله التماسه في أولى كلماته بعد عقود من الأسر.
تنظر الصهيونية إلى شعوب المنطقة عبر «هويات متاحفها» لا مجتمعاتها وتراكمها التاريخي وتعمل على إجبارنا على صنع قطيعة معه والانتكاس إلى جاهليات
إنّ دقائق معدودات على الفضاء الإلكتروني العربي كفيلة باستشعار الكارثة والخطر: أي مستقبل لهذا المجتمع! ترى أقصى درجات «حيوانية الإنسان»؛ طلّة مظلمة على همّ رجال العرب وما ينشأ عليه الجيل القادم. إن كان قال لنا ابن خلدون إن في عصر الرخاء تضعف العصبية وتنتهي روح التضحية وتظهر فيه النواعم من الرجال، فوباء نواعمنا ليس في عز رخائنا بل في أوج الإبادة والمقتلة وضعف على كل مستوى حضاري.
كانت أموال ملوك العرب وأمرائهم تدير وتنتهز قيم الدين عبر حشود من الشيوخ، فيقاد رجال العرب للموت في كل جغرافيا في حروب التدمير الذاتي سوى فلسطين. أمّا اليوم، فلا حتى انتهازية مع إرث العرب أو استمالة زائفة للمنظومة الأخلاقية، بل تخلٍ وانحدار كامل، وكامل الحيونة. واستبدل الشيوخ بحشود من المؤثرين يسيّرون المجتمعات عبر استمالة أتفه غرائزها، فلم يعد للقيم من الأنفة والشجاعة والعزة والمروءة وزن ولو مشوه كي يتم استنفاره.
في مفهوم الرجولة
إنّ محض وجود «إسرائيل» نقض لأي رجولة عربية، وجود قاتل للرجولة، فكيف لنا أن نكون رجالًا ونحن ننتهك بهذا الشكل، وأرضنا سليبة، ونساؤنا وأطفالنا تجوّع وأجسادهم تقطع وتتناثر كل يوم. كيف، بتعبير أمل دنقل، أن «تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها». إنّ هذا الواقع أنتج هروبًا جماعيًا للرجال العرب، وذلك عبر حصر المفهوم ومعناه ومقتضاه في داخل كل قفص في حديقة الحيوان. يضيق معناه بالتستر أن مصداقه في الوطنية والجيش الوطني ومسرحيات العروض العسكرية، أو في الممارسات السامة في العرف القبائلي والعشائري أو في أن الرجولة محصورة بما يحدث للطائفة لا الأخرى. وكأن ما يحدث خارجها ليس جارحًا للرجولة العربية، بل لرجولة أي إنسان، وكأن أي حصر للمفهوم ليس انتفاء كليًا له، وما يبقى منه سوى تصور وهمي.
لكن لماذا الرجولة؟ أليس هذه المفردة من الرجعية؟ يقوم الجواب على ثلاثة أوجه. يحظر في حيز «إسرائيل الكبرى» على العربي والعربية ممارسة السياسة، وحتى نحصل على هذا الحق، وحتى نمارس السياسة نفسها، علينا أولًا التمكّن من ممارسة العنف، أي امتشاق السلاح بالضرورة. الثاني، أن تجسيد القيم الأخلاقية من الشجاعة والنبل والحمية والمروءة مرهون بدوره إلى المقدرة على ممارسة العنف، أي، مرة أخرى، امتشاق السلاح. والوجه الأخير، أنّ التغيير المادي للتاريخ، خصوصًا للمجتمعات المستعمَرة القليلة القوة التكنولوجية، يحتاج أن تمتشق سواعد الرجال السلاح وأن تقاتل.
إنّ مقدرة بقاء أي مجتمع بهوية وأخلاق هو في نسبة نجاحه على تنظيم رجاله على ممارسة القتال والعنف. وما وهنُ العرب التاريخي إلا في نسبة نجاحنا في إنتاج هذا التنظيم، أي إنتاج حركات المقاومة المسلحة ثم بناء الدولة والجيش، ولا يكون بناء هذا التنظيم من دون منظومة أخلاقية وأيديولوجية رحبة ترنو إلى كونية خير الأمم والبشر، أي ما يصطلح عليه بـ«الأممية». يكمن التحدّي في هذا البناء، أمّا محض الرجال المسلّحين، فهم كثر، والسلاح، فهو مكدّس في المخازن.
لا يغادرني التقرير الرسمي للحكومة السورية حول أحداث الساحل، أنه ومع بدئها توجّه نحو 200 ألف مسلّح نحو الساحل. 200 ألف، أضعاف ما يستدعيه جيش العدو من الاحتياط لاحتلال مدينة داخل غزة. إنما هؤلاء، كنظائرهم من مقاتلي العشائر والطوائف والوطنيات العربية، لا يمكن لهم بأي شكل من الأشكال استحضار قيم الشجاعة والمروءة والأخلاق، ففي باطن وعيهم يعلمون أنها منقوصة ومزيفة، فحقيقتها تستلزم اتساقها في مواجهة إسرائيل، ولذلك تغلب على طبيعة الحروب الأهلية معارك قتلة لا مقاتلين، وإعدامات لا مواجهات.
الجانب الآخر، أن الجبناء لا يقاتلون بعضهم، يقال إن نهاية الشجاعة في التاريخ البشري كانت في تلك اللحظة التي اكتشف فيها أحد رماة السهام في المجتمعات القديمة أنه قادر على إطلاق السهم نحو السماء فيسقط على رجل بعيد فيقتله ــــــ أول قتل لا تنظر فيه لوجه خصمك. هذا المفهوم هو أساس قتال الجيوش الغربية وتكنولوجياتها الفائقة.
لم يكن نشر المشهد الأخير للشهيد أبي إبراهيم السنوار خطأ عشوائيًا، وليس فقط لولع الكائن الصهيوني ابن العولمة بمشاهد أفلام الخيال العلمي والتكنولوجي وتحليق المسيّرة. بل لأن الصهاينة غير قادرين حتى على استشعار الشجاعة حتى لو رأوها أمامهم، لم يشعروها من قبل فكيف يعرفونها؟ تمامًا كالقتلة والسايكوباثز غير قادرين على استشعار المشاعر البشرية النبيلة.
من جهتنا، الأمر نقيض، نحن الأضعف مادة وتكنولوجيا، حتى لو قمنا بالرماية من بعد، فهي تحت عيون العدو من زنانته ومسيّراته في السماء وأقماره الصناعية. إن الشجاعة أصل في عمليتنا في القتال، وجهد قتال بالضرورة يحتاج إلى الرجال وإلى بدن الرجال وخشونة الرجال ــــــ أن يضع رجل عربي بيده عبوة شواظ فوق رؤوس جنود العدو.
إنّ المسألة العربية اليوم ليست حول ترك السلاح بل كيف نتسلّح أكثر، خصوصًا نحن الذين أردنا الخروج لقتال إسرائيل فأخطأنا إعداد العدة وأتى نداء أبي خالد الضيف ونحن لم نحسن الرماية وافترضنا أنها فرض كفاية سقط عنّا وأن تكليفنا في مكان آخر. ولمَن لديه السلاح أن يتمسّك فيه أكثر من أي وقت مضى في تاريخنا، فلم تقترن مسألة وجود الإنسانية والكرامة والأخلاق العربية-الإسلامية بوجود السلاح كما هي اليوم، المسألة صفرية ومصيرية ولا حيّز وسطًا فيها مهما ادّعينا، فما دون السلاح لا فرق بيننا وبين الحيوانات العربية وملوكهم ورؤسائهم في حديقة حيوانات «إسرائيل الكبرى»، سنكون مجرّد قطعان خلف إنفلونسر عربي مخنث في قفص، فاقدين أي معنى للكرامة البشرية والعربية، وما دون ذلك هو الرجال والبنادق.