علي حيدر (الأخبار)
البيان الذي صدر أمس عن رئاسة الحكومة "الإسرائيلية"، تعليقًا على قرار الحكومة اللبنانية بنزع سلاح المقاومة، لا يمكن التعامل معه على أنه مجرد تصريح سياسي عابر، بل كتعبير عن مسار إستراتيجي يراد رسمه للبنان والمنطقة.
ففي لحظة تتكثف فيها تقاطعات عدة: ضغوط داخلية على المقاومة في لبنان، ورهانات "إسرائيلية" مستمرة على تفكيك بيئتها، ومساعٍ لإضفاء شرعية رسمية على ما فشل العدوّ في فرضه بالقوّة العسكرية... لا تعود الكلمات مجرد موقف، بل تتحوّل إلى أداة في معركة طويلة المدى، يُراد منها إعادة صياغة معادلات السيادة والقوّة داخل لبنان.
وما يلفت الانتباه في هذا البيان أنه صدر عن رئاسة الحكومة "الإسرائيلية" مباشرة، وهو أمر غير مألوف، ما يعكس خطورة قرار الحكومة اللبنانية الذي لم تتعامل معه "إسرائيل" كحدث داخلي لبناني، بل اعتبرته خطوة إستراتيجية تستحق التوقف عندها والبناء عليها. ومن الواضح أن البيان ليس رد فعل انفعاليًا، بل محاولة لتثبيت ما تعتبره "إسرائيل" ثمرة جهود متراكمة، نابعة من ضغوط سياسية وديبلوماسية مارستها جهات دولية وإقليمية متقاطعة مع مصالحها.
ما يتضح من مضمون البيان "الإسرائيلي" هو أن قرار الحكومة اللبنانية لم يكن مبادرة مستقلة بقدر ما هو استجابة لرهانات وضغوط خارجية. ف"إسرائيل"، التي جرّبت القوّة العسكرية وفشلت في تدمير سلاح المقاومة رغم الضربات القاسية التي وجّهتها إليها، انتقلت إلى الرهان على الداخل اللبناني، حيث قد تفتح الانقسامات السياسية أبوابًا لم تصل إليها الدبابات والطائرات. وبهذا المعنى، يصبح القرار اللبناني بمثابة "انتصار بالوكالة" ل"إسرائيل"، يتيح لها فتح مسار جديد نحو تفكيك معادلة الدفاع التي أرستها المقاومة منذ التحرير، مرورًا بحرب تموز، وصولًا إلى المواجهات الأخيرة.
رهانات نتنياهو
حين وصف نتنياهو القرار بأنه "بالغ الأهمية"، لم يكن ذلك مجرّد مدح عابر، بل إعلانًا صريحًا بأن ما جرى ليس نهاية المطاف، بل بداية لمسار جديد. إذ تشكّل هذه الخطوة محطة نحو إجراءات لاحقة أكثر خطورة قد تغيّر موازين القوى في لبنان والمنطقة. ومن هذا المنظور، يصبح كلّ تنازل داخلي في لبنان فرصة إضافية لـ"إسرائيل" لتوسيع دائرة الضغط، وتحويل اللحظة الراهنة إلى قاعدة صلبة لمكاسب إستراتيجية.
وتجلّت وقاحة البيان "الإسرائيلي" في تجاهله الكامل، وهو أمر متوقع، لحقيقة الاحتلال المستمر وانتهاكاته اليومية للسيادة اللبنانية برًا وبحرًا وجوًا. وفي الوقت نفسه، قدّم نفسه وصيًا على السيادة، في ما وُضعت المقاومة، التي قامت أساسًا للدفاع عن الأرض والشعب اللبناني، في خانة الخطر على هذه السيادة. وهذه المفارقة المقلوبة ليست بريئة، بل تهدف إلى ضرب شرعية المقاومة في وعي اللبنانيين والعرب، وتحويل الاحتلال من عدو إلى طرف "مساعد" أو "شريك" في بناء الاستقرار!
وحين يتحدث البيان "الإسرائيلي" عن "إعادة بناء مؤسسات الدولة والجيش بعيدًا من تدخل الجهات غير الحكومية"، فإن المقصود ليس تعزيز الجيش ليصبح قادرًا على التصدي للعدو، بل إعادة إنتاج دولة ضعيفة خاضعة لوصاية خارجية. وكأن المطلوب هو دولة بلا عناصر قوة حقيقية، وجيش بلا قدرة دفاعية، ومؤسسات تعمل تحت سقف الشروط "الإسرائيلية" والدولية. وبهذا الشكل، يصبح مفهوم السيادة مُفرغًا من محتواه، ومختزلًا في وظيفة شكلية لا تحمي البلاد من أي عدوان.
البيان "الإسرائيلي" لم يكتفِ بالترحيب بالقرار اللبناني، بل عرض صراحة "التعاون مع الحكومة اللبنانية لنزع سلاح حزب الله والعمل معًا من أجل مستقبل أكثر أمانًا".
وتضمّن هذا العرض رسالة علنية بضرورة الانتقال إلى التناغم والتكامل، وصولًا إلى التنسيق لمواجهة "الهدف المشترك" المتمثل بالمقاومة.
ويفتح هذا الموقف آفاقًا لسيناريوهات متعددة يجب أن تظل تحت رقابة سياسية دقيقة لمتابعة ترجماتها العملية. ففي الحد الأدنى، تكشف هذه الدعوة عن رغبة "إسرائيل" في الانتقال من مرحلة الضغوط غير المباشرة إلى مرحلة التعاون العلني، بما يتوافق مع مناخ التطبيع المتصاعد في المنطقة. إذ لم تعد "إسرائيل" تكتفي بالجلوس وراء الطاولة، بل تسعى إلى إقامة علاقة مباشرة مع لبنان، ولو عبر مسار متدرج يوسع نفوذها في الداخل اللبناني.
غياب الضمانات
حتّى في عرضه لما يسميه الخطوات المقابلة، لم يتجاوز البيان الحديث عن "تقليص تدريجي للقوات" بدل الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة. ولم يتضمن أي إشارة إلى وقف الاعتداءات الجوية والبرية المستمرة، ما يعني أن "إسرائيل" تسعى إلى حصول لبنان على تنازلات إستراتيجية دون تقديم أي ضمانات حقيقية بالمقابل.
وليست هذه المرة الأولى؛ فالعدو سبق أن وعد بانسحابات وتفاهمات ثمّ انقلب عليها لاحقًا، مستفيدًا من الغطاء الأميركي والتواطؤ الدولي والتجاهل الرسمي اللبناني، والتكيف مع الوقائع التي يفرضها بدعم أميركي واضح.
لو افترضنا أن القرار اللبناني مضى إلى نهايته، فسيجد لبنان نفسه خاسرًا ليس فقط لسلاح المقاومة، بل أيضًا لمعادلة القوّة التي شكّلت عنصر توازن مع العدو. والأخطر من ذلك، أن "إسرائيل" ستتمكّن عندها من التدخل المباشر في صياغة مستقبل لبنان السياسي والأمني بذريعة "الاستقرار". وبهذا الشكل، يتحول لبنان إلى ساحة مكشوفة، فاقدة لأدوات الحماية الذاتية، وخاضعة لإملاءات إقليمية ودولية لا تنظر إليه إلا كوظيفة في مشروع أكبر.
انطلاقًا مما سبق، يتضح أن البيان "الإسرائيلي" ليس مجرد إشادة بقرار لبناني، بل إعلان عن مرحلة جديدة من الصراع؛ مرحلة تُنقل فيها المواجهة من حدود الجنوب إلى قلب الداخل اللبناني. إذ لم يعد الهدف نزع السلاح فحسب، بل تفكيك نموذج المقاومة واقتلاعها من وجدان المجتمع.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة الأساسية أن "إسرائيل"، رغم خطابها الواثق، تعترف ضمنًا بفشلها العسكري، ما يجعلها مضطرة إلى الرهان على الانقسامات الداخلية اللبنانية. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يمكن للبنان أن يصون سيادته في غياب مقاومته، أم سيكتشف بعض اللبنانيين المخاطر التي يُدفع لبنان نحوها قبل فوات الأوان، وأن المقاومة ليست عبئًا، بل الضمانة الوحيدة أمام عدو لا يعرف سوى لغة القوّة والهيمنة؟