موسى السادة/ جريدة الأخبار
لو وضعنا أنفسنا مكان الصهاينة، من ناحية السردية والأيديولوجيا، لوجدنا أننا أمام معضلة في تخيّل شكل الخطاب الجديد الذي عليهم تبنّيه. فقد استهلكت وأنهكت كل الأدوات الخطابية التي اعتاشت عليها الصهيونية لعقود ومنذ نشأتها. من معاداة السامية إلى الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط إلى الصف الأول للدفاع عن الحضارة أمام البربرية. المسألة هنا، أنه هذا الاستهلاك، ونجاحنا نحن في إضعاف هذه الأدوات الخطابية وتفكيكها، أفضى إلى أزمات وتحدّيات لنا كما للصهيونية.
للعدو معضلة في الإبداع، أي ابتداع سردية أخرى جديدة تتمتّع بقدر لا بأس به من التماسك المنطقي والشحنة العاطفية، وهو تحدٍّ حقيقي. رغم أن الصهيونية لا تقوم عبر قوّة السردية والأيديولوجية في ذاتها، بل على العكس هي في جوهرها ضعيفة حبلى بالمغالطات المنطقية والمتهافتة، وما يبقي تماسكها هو فائض القوة التاريخي للإمبريالية الغربية.
بينما المعضلة الأخرى، والأهم، وخصوصًا في الولايات المتحدة، أن هذا الاستهلاك، وانتفاء القدرة على الإبداع، سيؤدّي إلى عدم التمكّن من تأمين الانتقال الجيلي لهذه الأيديولوجيا. أي إن عملية التسليم للجيل القادم تواجه تحدّيًا كبيرًا، فلا يمكن تناقل أيديولوجيا تعاني من الضعف. والأيديولوجيا التي لا تتمكّن من تأمين انتقالها من جيل إلى آخر تحتّم عليها الموت.
أتى فقدان القوة هذه للصهاينة على حين غرّة، وهو من مفاعيل المباغتة في الفعل الثوري للسابع من أكتوبر. فجأة، وبانسعار، عملوا على استحضار واستنفار كل التراث الاستشراقي من القرن الثامن عشر، وتكثيف منهجيات الإبادة الاستعمارية منذ وصول الأوروبيين للأميركيتين. وكذلك، كل الخزان التاريخي لمعاداة السامية، وخلاصة كل الأفلام الهوليوودية على العرب والمسلمين، أولئك الوحوش الإرهابيين الإسلاميين في المشرق الذين دخلوا على الكائن الأبيض في بيته الآمن فقتلوه.
بالاستناد إلى كل ذلك، أسرفت الصهيونية في القتل والإجرام وصولًا إلى العدوان على إيران، ليتفاجؤوا حينها بأن التراث الاستشراقي ليس بالقوة المفترضة. حيث خاضوا الحرب ضد إيران وشغل عقود من السرديات وحريات النساء وأفلام الرجم بلا قيمة سياسية ودعائية لها كما أريد له. وهنا استفاد التلكؤ الإستراتيجي للإيرانيين من مبادرة المقاومة الفلسطينية، وأثرها على شكل رسم مسرح العدوان، ففي الأخير إن مجمل المسرح التاريخي للمشرق تتضافر فيه جهودنا بشكل حتمي.
لم يستنفر الجمهور العالمي العريض والغربي، فيما كان يعدّ منذ عقود لحرب هي بمثابة نهائي كأس عالم الحضارة ضد بربرية الملالي. وكانت هنا صدمة وحيرة الصهاينة خلال العدوان، ما الذي يحدث أمامنا؟ نقول لكم إننا نقتل السمر الإسلاميين البرابرة والجمهور يهتف ضدنا؟ و«بووم بووم تل أبيب؟».
لن يؤثر تآكل الشرعية بالقدر المفترض على مشروعيته الداخلية في تماسك بنية المستوطنين. بل وعلى العكس، تؤذن نهاية الاستشراق بحرب اللامحرمات
بطبيعة الحال، فإن الاستشراق لن ينتهي، فهو نتاج ثقافي متلازم مع فارق القوّة المادّية والعسكرية، والذي لا يزال لدى الأميركيين، وليس الأوروبيين، حيث إن مفهوم «الغرب»، كوحدة تاريخية للمجتمعات البيضاء بقوة موحدة، يعاني تصدّعًا غير مسبوق، بعد فسحة تماسك الثمانين عامًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فوحدة المجتمعات البيضاء شذوذ تاريخي وليس السائد.
الظاهرة المميزة هنا، وهي من أبرز معالم تفجير «الطوفان» لتناقضات الجبهة الإمبريالية، هي تموضع الكيان الإسرائيلي على تضاد متزايد على مستوى الفواعل الإعلامية والسياسية في الفضاء الإلكتروني الأميركي، مع الهوية الوطنية الأميركية ومصالحها. أي في تصادم مع أقوى الأيديولوجيات الوطنية في العالم وأكثرها حرمة، فالهوية الأميركية تملك من القوة تجعل من تأكيدنا التمسك بشعار «الموت لأميركا» أكثر معاني الثوريّة بشكل مطلق.
أمّا بالنسبة إلى الاستشراق، فالشكل، والبنية التاريخية له والتي عملت كرافعة للصهيونية منذ نشأتها، يعانيان من جفاف حقيقي.
إنّ نهاية هذا الاستشراق بالنسبة إلينا مكسب خطير. فرغم تحقيقنا لنقاط كثيرة ومهمة على جبهة السردية، إلا أن هذا التقدّم كشف لنا محدودية الأثر التاريخي للانتصار في حرب الصورة على أهميتها. فأزمة الصورة وأثرها على الشرعية على العدو لن توقف آلته الإجرامية والاستعمارية ولن تزيل إسرائيل، وهو هدفنا الواضح والدقيق إن تناساه البعض. ولن يؤثر تآكل الشرعية بالقدر المفترض على مشروعيته الداخلية في تماسك بنية المستوطنين. بل وعلى العكس، تؤذن نهاية الاستشراق بحرب اللامحرمات ولو شكلًا، وهي حرب على المكشوف، ولا غشاوة لإدارة السرديات والصورة فيها.
هذا تحديدًا ما وصل له العدو الصهيوني في هذه المرحلة، فلسان منظورهم أن ما يهم اليوم هو فرض أمر واقع على الأرض من التهجير والاستيطان والضم. بينما يقع التعامل مع عبء كلفة ذلك على السردية والصورة على الجيل القادم من المستوطنين، أمّا ما علينا نحن - أي الصهاينة - التغيير على الأرض بالحديد والنار وضمان بقائنا فيها أولًا. لا يخطئ الصهاينة كثيرًا في هذه الإستراتيجية، ففي الأخير وكما يقول العرب: هلك من ليس له سفيه يذب عنه. تحوّل الكيان اليوم بمجمله إلى ذلك السفيه الذي يذب عن نفسه وعن الغرب بأسوأ وأرذل السبل، فذلك هو المسار الذي وضعهم فيه «الطوفان» كي لا يهلكوا. فالصراع، في جوهره وبديهياته، صراع على الأرض وفيها وعليها، وحول مسألة الثبات والبقاء فوقها.
هذا ما يصلنا إلى مرافعة أخرى من أجل السلاح، إنّ التحوّل في السردية ذخر لنا علينا استغلاله، لا الركون إليه وحده. إنما مع معرفة أن وزنه الفعلي هو وزن ذلك الظل الذي ينشأ من وجود بندقية، ما إن ذهبت انتهى. لم يكن التمسّك بكل قطعة سلاح عربية، من اليمن إلى لبنان ومرورًا بفلسطين وكل الوطن العربي، مصيريًا كما هو اليوم، فما نحن مقبلون عليه من مراحل وسنوات الحرب هي بالأسنان والأظافر بالمعنى الحرفي، فهي تلك الحرب «الكبيرة والطويلة مع هذا الكيان» التي أشار إليها السيد نصرالله في آخر كلماته.
لذلك، هنا وجب تأكيد أن ما هو بأهمية التمسك بالسلاح هو رفده بشرعية ثورية وإيمانية حقيقية منطلقة من شرعية العداء لإسرائيل نفسها وخزاننا التاريخي فيه من تضحيات وشهداء، لا روافع الوطنيات والسيادات وحدودها بل ثائرة عليها. فإن هلك الصهاينة بلا سفهائهم، فلسان حالنا كعرب ولأجيالنا القادمة: هلك من ليس لديه مقاوم ثائر يذب عنه.