اوراق مختارة

ما بعد «الطوفان» لن يكون إلا الطوفان

post-img

عبد المنعم علي عيسى/ جريدة الأخبار

يمكن الجزم اليوم بأن المرحلة الممتدة ما بين 7 تشرين أول 2023 وبين اليوم، هي المرحلة الأهم والأخطر، في تاريخ المنطقة منذ «سايكس بيكو» 1916، و«وعد بلفور» 1917، واللذين شكلا بداية لاستعادة الغرب إستراتيجية «الحروب الصليبية» التي توقفت في العام 1301، بمفاعيل عدة،

لكن الأبرز منها كان بفعل صمود الهوية الدينية والقومية لشعوب المنطقة، وعلى مبعدة نحو عامين لدخول هذه المرحلة المشار إليها أعلاه يمكن القول إن «أس الصراع» الدائر في المنطقة، وعليها، بات متمحورًا في إطارين اثنين، أولاهما خارجي، غربي وهو يرى أن «سايكس بيكو»، التي جاءت تعبيرًا عن توازن القوى العالمي الذي كان سائدًا آنذاك، وهو برأس هرم فرنسي بريطاني، لم تعد تتلائم مع توازنات النظام الدولي الجديد خصوصًا بعدما شهد هذا الأخير محطة بارزة، أواخر العام 1991 التي أفرزت من حيث النتيجة انفرادًا أميركيًا بالسيطرة العالمية بعيد تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي الذي تشارك مع واشنطن تلك السيطرة على مدى يقرب من أربعة عقود ونصف، ولربما كانت الشواهد على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى، بدءًا من «اتفافات أبراهام»، الموقعة بين كيان الاحتلال والإمارات العربية العام 2020، مرورًا بـ «مشروع ترامب» القاضي بتحويل غزة إلى «ريفييرا الشرق»، ثم وصولًا إلى مشروع «إسرائيل الكبرى» الذي أطلقه بنيامين نتنياهو أخيرًا، وثانيهما داخلي، شرق أوسطي، والذي يضم فواعل أخرى غير عربية مثل إيران وتركيا، وهو يرى أن الإستراتيجية التي كانت تقوم على انتظار خروج «الدخان الأبيض» من القاعات السوداء التي تجري فيها مناقشات «المصير الشرق أوسطي» باتت تمثل خطرًا لا يقل، إن لم يفق، في تأثيره الخطر الناجم عن الانكفاء إلى خط الدفاع الأخير المتمثل بالتمترس وراء الدفاع عن الذات والهوية الذي نجح في ردع الهجمة الأولى في 1096 – 1301.

تلك حال لم تعد صالحة لمواجهة الطبعة الجديدة التي تعتد بالكثير بدءًا من «الفجوة» التكنولوجية الهائلة، ثم وصولًا إلى طرح «الهوية الدينية» الجديدة التي ترمي إلى نسف موروث سابق وإحلال آخر مكانه. والفعل، في سياقه التاريخي، يعني تبديل «أمة» بواحدة أخرى لا تكاد تشبهها بالكثير .

قد يكون فعل من نوع إجراء «جردة حساب» تتضمن وضع تقييم دقيق للنتائج التي قادت إليها عملية «الطوفان»، وما استتبعها من الحرب على «حزب الله» في أيلول 2024، والصدام الإيراني الإسرائيلي في حزيران 2025 أيضًا، لا يزال مبكرًا، لأسباب عدة، أبرزها أن النتائج المتوخاة من الفعل ستستند إلى سياقات تراكمية، لا إلى نتائج حاسمة، من الواضح أن «صانع القرار»، أي قرار «الطوفان»، مدرك استحالة الوصول إليها.

وعليه؛ سيل التراكمات لا يزال جار على ضفافه الداخلية والإقليمية والدولية، ولما يتوقف بعد، ومنها، أن فواعل الأحداث لا تزال نشطة، ومتحركة في آن، ولما تتجه إلى السكون الذي يعني هنا تثبيت المعادلات الإقليمية، ومن نافل القول إن تحقيق أي «نجاح»، أو «انتصار» عسكري، يصبح بلا قيمة ما لم تستطع «جرافات» السياسة إيجاد تراجم له على الأرض، وفي هذا السياق يمكن الجزم بأن السرعات التي يجري التنقل بها من «مشروع» إلى آخر تشكل دليلًا قاطعًا على الفشل في إدارة هذا الشق الأخير من الصراع، ولكن من دون إغفال التغييرات التي جرت خلال الأشهر التسعة الماضية، فسوريا لم تكن في أي يوم من الأيام «أميركية» أكثر مما هي الآن، ولربما يمكن سحب ذلك التصنيف أيضًا على لبنان بدرجة ما.

لكن ذلك لا يشير إلى تغيير من النوع الذي يمتلك مقومات الديمومة، إذ دائمًا ما كان من اليقين أن سوريا، بإرثها وموروثها، من الصعب لها أن تستسيغ «قوالب» من هذا النوع، لأنها ببساطة سوف تؤدي إلى خروجها من التاريخ الذي سيفضي بالضرورة إلى خروجها من الجغرافيا أيضًا، ومن نافل القول إن فصل التاريخ (البشر) عن الجغرافيا (الأرض) لا يراكم سوى لحالة من «التيه» الذي يرمز لحالة من فقدان الهوية.

لم تجرِ مناقشات واسعة، وفي الأمر الكثير مما يدعو إليه، غداة إطلاق نتنياهو لفكرة «إسرائيل الكبرى»، ما يشير إلى فقدان الحس السياسي للأنظمة القائمة في المنطقة بدرجة غير مسبوقة، ومثل هذا الفقدان قد يؤدي إلى فقدان تلك الأنظمة لـ «مشروعية» بقائها. فمشروعية أي نظام سياسي تقوم بالدرجة الأولى على قدرته في حماية ترابه الوطني، بل ولربما تؤدي، إذا ما استكان الشارع وظل عاجزًا عن أن يكون طرفًا في المعادلة، إلى فقدان البلدان، التي تحكمها تلك الأنظمة، لمشروعية بقائها بالمعنيين السياسي والجغرافي.

المؤكد هو أن فعل الاستكانة يبدو مؤقتًا، فلا تجارب التاريخ تقول بإمكان استمراره، ولا الذات الجمعية لشعوب المنطقة قادرة على «تجريب» قميص، ثم آخر، تبدو «قصته» و«زراكشه» بعيدة كل البعد عن مزاجها العام، ورغم أن غرف صناعة القرار في الغرب تُبدي «صبرًا» لافتًا في «حياكة» تلك القمصان، ومعالجة أسباب النفور منها، إلا إن طول أمد «التجريب» لن يراكم سوى الاحتقان تلو الآخر، و«الطوفان» لا يزال في طور مراكمة الأسباب والموجبات القائلة بوجوب توقف ذلك الفعل، ولعل كلمته الأخيرة ستكون عندما يستولد «طبعة» جديدة، تبدو قادمة لا محالة، بمفاعيل أبرزها ثبات الهوية الدينية والحضارية لشعوب المنطقة لمدة تزيد على أربعة عشر قرنًا بكل ما احتوته من محاولات انتزاعها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد