يستعرض تقرير للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) استمرار مساعي سلطات الاحتلال لطمس الهوية الفلسطينية للضفة الغربية واستبدالها بهوية جديدة مزوّرة بتوظيف علم الآثار.
في تقرير بعنوان “أركيولوجيا من دون فلسطينيين: طبقة جديدة من الاستعمار تعيد كتابة تاريخ الضفة الغربية”، يقول “مدار” إن مؤتمرًا صهيونيًا عقد في القدس المحتلة، في شباط المنصرم، حمل عنوان “المؤتمر الدولي الأول لعلم الآثار وحفظ المواقع في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)”. قدّم المؤتمر نفسه أنه أول حدث بحثي ومهني من نوعه يُعقد حول الآثار والحفاظ عليها في الضفة الغربية، وتضمّن جلسات أكاديمية، جولات ميدانية، وحوارًا ختاميًا حول قضايا الأخلاقيات. غير أن انعقاده أثار موجة واسعة من النقد والجدل، سواء في المجتمع الأكاديمي الدولي، أو في الساحة السياسية الإسرائيلية، بسبب مكان انعقاده وطبيعة النشاط الأثري في منطقة محتلة وفق القانون الدولي وبسبب مزاعمه. ونشر “صندوق اكتشاف فلسطين” إدانة شديدة، معتبرًا أن استخدام تسمية “يهودا والسامرة” يمحو اسم الضفة الغربية
بمشاركة جامعات إسرائيلية
المؤتمر نُظّم برعاية “ضابط الآثار” في الإدارة المدنية، بالإضافة إلى المجلس الإسرائيلي للحفاظ على مواقع التراث، وعدد من الجامعات والمؤسسات البحثية الإسرائيلية، منها جامعات تل أبيب، حيفا، بن غوريون، بار-إيلان، الجامعة العبرية، وجامعة “أريئيل” المقامة داخل مستوطنة.
تَوزّعَ برنامج المؤتمر بحسب الفترات الأثرية ومناطق التنقيب: أبحاث جديدة عن موقع هيروديون؛ دراسات حول الفترات الإسلامية (مثل النقود الأموية، ورش صناعة الفخار في النبي صموئيل، وصناعة الزجاج في الخليل)؛ عرض مواقع من العصر الحديث، مثل حصون “تيغارت”، ومعسكرات الحرب العالمية الأولى؛ نقاشات عن فترات كلاسيكية، وعن نابلس وجبل عيبال في العصر الحديدي؛ نتائج أبحاث في مستوطنة شيلو في محافظة رام الله، مثل “تل تبنة”، “رجم الحميري”، ونقطة ارتفاع 914 التي رُبطت في النقاش بتقليد يتعلق بمستوطنة بيت إيل؛ كذلك دراسات عن فترات ما قبل التاريخ في المنطقة، وعن “يهوذا” من العصر البرونزي إلى الفارسي، والجنوب السامري في العصور البرونزية والحديدية. كذلك تضمن عرض مستجدات من منطقة قمران وكهوفها، بما في ذلك نتائج مسوحات حديثة ومكتشفات عضوية نادرة مرتبطة بالمخطوطات (خصوصًا مخطوطات البحر الميت)؛ إضافة إلى جلسة عن مشروعات البناء الحشمونية-الهيرودية، وأخرى عن التعليم والمجتمع والحفاظ على المواقع. إلى جانب الجلسات، نُظمت جولة ميدانية لمواقع مثل “السامري الصالح”، مع عرض مشروعات حفظ وترميم شملت فسيفساء منقولة وقصر هيرودياني مجاور.
فرض سيادة يهودية
ينبه التقرير إلى أن المنظمين طمعوا بجعل المؤتمر محاولة لفرض السيادة اليهودية على الأرض المحتلة من مدخل “الجهود الأكاديمية والمهنية” عبر دراسة منطقة فلسطينية ثرية بالآثار ونسبها عنوة إلى المشروع الصهيوني، من خلال تبيين أن الحضور اليهودي ثابت في المنطقة، بينما المرور العربي (الإسلامي والمسيحي) هو الاستثناء.
يرى “مدار” أن أهمية هذا المؤتمر، الذي تمت مقاطعته من علماء الآثار في العالم، تكمن في أنه الأول من نوعه منذ العام 1967 بحيث شكل “فرصة” لمأسسة التعاون بين المؤسسات الإسرائيلية والإدارة المدنية والجامعات الإسرائيلية. في المقابل، لم يخف المؤتمر مسألة المقاطعة المتوقعة له، بحيث قدّم المتحدثون “إضاءات” تتعلق بكيفية التعامل مع المقاطعة عبر فبركة دليل “أخلاقي” خاص بهم يبرر هذه السرقة التاريخية. لكن الانتقادات الدولية لم تغب وعلى سبيل المثال صندوق اكتشاف فلسطين، وهو من أقدم المؤسسات الاستعمارية البريطانية التي عملت في المنطقة مطلع القرن العشرين، نشر (وبشكل غريب، نظرًا لتاريخه الاستعماري) إدانة شديدة، معتبرًا أن استخدام تسمية “يهودا والسامرة” يمحو اسم “الضفة الغربية”، وأن الأبحاث المعروضة تنتهك القوانين الدولية الخاصة بحماية التراث في الأراضي المحتلة.
انتقادات إسرائيلية
كذلك، أشار منتقدون إلى أن باحثين يعملون بالتعاون مع مؤسسات فلسطينية لم يتمكنوا من المشاركة (وكأن الفلسطينيين كانوا يرغبون بالمشاركة ولكن لم تتم دعوتهم). وقد انتقد آخرون من داخل حقل الأبحاث التراثية والأركيولوجية الإسرائيلي المؤتمر لأنه قد يضع المشاركين على “قوائم سوداء” غير رسمية في بعض الدوائر الأكاديمية الدولية.
من جهتها شنّت حركة المقاطعة حملة ضد مشاركة باحثين ومؤسسات مرتبطة بالمستوطنات، ودعت إلى عدم الاعتراف في جامعة “أريئيل”، واستبعاد من حضروا المؤتمر من محافل أكاديمية دولية.
داخل فلسطين المحتلة (إسرائيل) أثار المؤتمر أزمة كبيرة؛ ففي نيسان 2025، أُلغي المؤتمر الأثري السنوي الـ49 للجمعية الإسرائيلية لدراسة أرض إسرائيل بعد أن تدخّل وزير التراث لمنع مشاركة البروفسور رافي غرينبرغ، والذي كان قد وجّه انتقادات حادة لمؤتمر شباط. هذا الإلغاء اعتُبر حدثًا غير مسبوق، لأنه أظهر كيف يمكن للسياسة أن تفرض نفسها على المجال الأكاديمي وأن تحدّ من حرية البحث العلمي. النقاش سرعان ما خرج إلى العلن وأصبح أكثر حدّة، حيث وصفه البعض بأنه “تطبيع لجرائم الحرب”، بينما رآه آخرون “معركة ضد محاولات محو التاريخ”.
تطهير عرقي
البروفسور رافي غرينبرغ متَّهَم في "إسرائيل" بكونه ناشطًا يساريًا راديكاليًا، ورئيس مجلس إدارة جمعية “عيمك شافيه”، وهي جمعية تعارض الحفريات الأثرية الإسرائيلية في مواقع مركزية مثل مدينة داود وسلوان وتل شيلو، وتُموَّل بنسبة تقارب 97% من حكومات أجنبية مثل سويسرا، النرويج وفرنسا.
في مظاهرة في جامعة تل أبيب، مطلع العام 2025، هاجم بشدة العمليات الإسرائيلية في غزة مستخدمًا لغة “التطهير العرقي” و”الإبادة الجماعية”. على المستوى الأكاديمي، تعاون غرينبرغ مع باحثين مثل البروفسور يانيس حملاكس، المعروف بدعمه العلني لحركة المقاطعة، وأكد بتصريحاته بأن إسرائيل تقترف إبادة جماعية في غزة. ومعًا نشرا أعمالًا وصفت الصهيونية بأنها حركة عنصرية، وأن علم الآثار في إسرائيل يخدم “الهيمنة اليهودية-الأشكنازية”. علاوة على ذلك، في شباط العام 2025 بعث غرينبرغ برسالة لزملائه في إسرائيل والخارج عبّر فيها عن “اشمئزازه” من نيتهم المشاركة في مؤتمر ترعاه وزارة التراث حول علم الآثار في الضفة الغربية. كانت رسالته هي التي دفعت جمعية بريطانية مرموقة مثل “صندوق استكشاف فلسطين” إلى تبني دعوته للمقاطعة، مبرّرة ذلك بغياب تمثيل المؤسسات الفلسطينية، وبأن المؤتمر ينتهك القانون الدولي ويجسد نزع الفلسطينيين من تراثهم.
ويخلص “مدار” للقول إن هذا المسار جعل منتقديه يرون فيه شخصية تسعى إلى تقويض الرواية الرسمية لــ"إسرائيل" من الداخل، ويستغربون منحه منصة رسمية لإلقاء محاضرة في “المؤتمر الأثري التاسع والأربعين في "إسرائيل"، الذي تنظمه سلطة الآثار، تحت رعاية وزارة التراث نفسها التي هاجمها وقاد حملة لمقاطعة أحد مؤتمراتها.