خالد حسن البنا/ كاتب مصري
لم يكن "عام الحزن" مجرد تاريخ، في سيرة النبي الأعظم (ص)، حين فقد زوجه السيدة خديجة وعمه أبا طالب، هو قدرٌ يتكرّر كلّما انكسر ظهر الأمة برحيل من يحملون أمانتها، فيرتقوا شهداء في زمنٍ عزّ فيه وجود الرجال. عام الحزن الآن هو عام فقدنا فيه السيد حسن نصر الله، سيّد شهداء هذه الأمة، الرجل الذي جسّد المقاومة فكرًا وعملاً، والذي إن لم تليق به الشهادة، فبمن تليق؟ ونحن، اليوم، أمام الذكرى السنوية الأولى لاستشهاده، إذ تتحول ذكراه إلى عهدٍ متجدّد بأنّ المقاومة لا تُهزم برحيل القادة، بل تشتدّ وتترسّخ.
لقد كان استشهاد السيد حسن نصرالله محطة فاصلة؛ كشفت لنا بجلاء من هو المحبّ الصادق، ومن هو العدو الحقيقي، حتى من بين من ادّعوا الحلف والولاء. إن سقوط الأقنعة هذا شكّل لحظة وعي جماعية، أعادت فرز الصفوف على أساس الثبات في خط المقاومة، لا على أساس الشعارات والمصالح. ومن هنا؛ نتأكد أن دماء القادة هي البوصلة، لأنها تحرّك المجتمع كما حرّكت دماء الإمام الحسين (ع) ثورة التوابين، وكما جسّدت السيدة زينب (ع) ثقافة الصبر، حين قالت: "ما رأيت إلا جميلاً"..
إن ثقافة استشهاد القادة امتداد لثقافة دينية ممتدة منذ استشهاد النبي (ص) والإمام علي (ع)، والذي قال عند استشهاده : "فزت ورب الكعبة"، مرورًا بالإمامين الحسن والحسين (ع).. وصولًا إلى اسشتهاد الإمام الحسن العسكري والد الإمام المهدي المنتظر، ثم شهادة مراجع كثر.. إنها ثقافة ترى في الشهادة اصطفاءً إلهيًا، تمامًا كالنبوة، فهي فوز وكرامة ربانية.
كما لم تكن هذه الثقافة غريبة عن تاريخ الأمة، فهي أيضًا لم تكن غريبة عن حزب الله نفسه؛ والذي قدّم قادته واحدًا تلو الآخر: من الشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي وصولًا إلى السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، ومن القادة العسكريين عماد مغنية وفؤاد شكر وإبراهيم عقيل، وغيرهم من الشهداء الذين تحوّلوا إلى أعمدة في ذاكرة المقاومة ورموزًا في مسيرتها.
لقد كان حجم القنابل التي ألقيت على مكان وجود السيد حسن نصر الله أكبر من تلك التي استهدفت المفاعلات النووية الإيرانية، في دلالة واضحة على أن العدو لم يكن يستهدف جسد رجل، بل كان يسعى إلى ضرب العقيدة والفكر والمقاومة من جذورها. إذ إن السيد بوجوده كان أخطر على الكيان الصهيوني من أي مفاعل نووي، لأنه يمثّل منظومة إيمان وفكر وصمود تهدد كيانهم من الأساس. ومن هنا، اغتياله أغلق الباب على الترهات كلها التي روّجت بأن حزب الله يتواطأ مع "إسرائيل"، من تحت الطاولة في سوريا أو لبنان، مؤكّدًا أن الصراع مع هذا الكيان ليس حدوديًا؛ هو صراع وجودي لا يقبل المساومة.
استشهاد السيد نصرالله حمل كذلك رسالة كبرى إلى الأمة، وهي أن الدفاع عن غزة وتقديم جبهة إسناد لها كان السبب المباشر في استهدافه، ما يجعل دماءه جسرًا لوحدة الدم السّني والشيعي، بل وكل أبناء الأمة العربية والإسلامية على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وحتى المسيحيين منهم، في مواجهة عدو لا يفرّق بين أحد. إنها وصية عملية بوجوب تنحية الخلافات جانبًا؛ لأن العدو واحد، ويريد اقتلاع الجميع من دون استثناء.
من أبرز إيجابيات هذه الشهادة المباركة أنها أنهت وهم الاتكالية على شخص السيد حسن نصر الله، قائدًا فردًا، إذ كان بعض أبناء الأمة العربية والإسلامية يتعاملون معه كما لو أنه المنقذ أو حتى الإمام المهدي المنتظر.. حتى إنّ كثيرين رأوا أن تحمّله لأعباء المقاومة بمواقفه وأفعاله كان جهادًا كفائيًا يعفيهم من مسؤوليتهم الفردية في الجهاد.. وبذلك يسقط التكليف عن باقي الأمة.. فجاء استشهاده ليؤكد أن زمن الانتظار قد ولّى، وأن على كل فرد أن يكون "السيد حسن وأكثر" في وعيه وثباته واستعداده للتضحية. وهكذا تحوّل السيد نصرالله من شخص رمز إلى مدرسة متكاملة، ومن قائد إسلامي وعربي إلى قائد أممي، ممن يتركون الوصايا الخالدة، ومنها التسمك بحق المقاومة بالسلاح، وصية كتبها القائد نصرالله الأممي بدمه للأمة جمعاء..

إن الثبات الذي أبداه السيد حسن نصر الله يعكس الروح القيادية الشجاعة، فهو لم يغادر الضاحية الجنوبية على الرغم من وصول الحرب إليها، بقي كما يبقى الجنود في الميدان، ليؤكد أن القائد لا يترك جنوده.
بعد استشهاده واستشهاد معظم القادة، صار قرار الحرب بالنسبة إلى حزب الله أسهل من أي وقت مضى، إذ لم يعد لديه ما يخسره أو يخاف عليه.. إن دماء هؤلاء القادة الكبار أزالت مسوّغات التردد، ورسخت قناعة بأن المواجهة قدر لا مفر منه، خاصة بعدما بدأت تتعالى أصوات من الحكومة اللبنانية لنزع سلاح المقاومة.
كما فتح استشهاده الباب أمام تطوير منظومات الأمن السيبراني والتحقيقات الأمنية في الحزب، لمنع تكرار ما حدث من اختراقات، مثل تفجير أجهزة "البيجر" والاتصالات وأجهزة التعقب والعملاء.. فالشهادة هنا لم تكن نهاية، لقد كانت دافعًا لتطوير أدوات المواجهة المستقبلية وصون الجبهة الداخلية من أي اختراق.
على الرغم من فداحة الخسارة ووقع الصدمة الأولى، أثبتت بيئة المقاومة قدرة استثنائية على استيعاب استشهاد السيد حسن نصر الله ورفاقه البارزين. لم تنزلق إلى شلل أو ارتباك، بل حوّلت الصدمة إلى طاقة دفع متجددة، كأن الدماء الطاهرة سرّعت عملية إعادة الاصطفاف والبناء.
هذه المرونة النفسية والاجتماعية والعسكرية والمؤسساتية تكشف أن مشروع المقاومة لم يكن رهينًا لشخص القائد، هو ثقافة جمعية متجذّرة في وعي الناس، تستمد قوتها من تضحيات الشهداء ومن إيمان الجمهور العميق وتضحياته، وخصوصًا مجتمع المقاومة، بعدالة القضية واستمرار المسار حتى تحقيق النصر النهائي.
في المحصلة، لم يكن استشهاد السيد حسن نصر الله غيابًا، بل حضورًا أكبر في وجدان الأمة الجمعي، وتحولًا نوعيًا في مسار الصراع. لقد مثّل انتقالًا من مرحلة كان فيها السيد رمزًا حيًّا، إلى مرحلة صار فيها رمزًا خالدًا ووصية باقية ستخلّدها الأجيال القادمة..
إنه عام الحزن كالذي عاشه النبي (ص)؛ لكنه أيضًا عام البداية الكبرى، تُصنع بدماء الشهداء وتُكتب بالعزيمة والصبر والتضحيات والإقدام والتحدي والصمود، لتبقى الأمة وفية للوصية، متمسكة بالسلاح، موحّدة الصفوف، صانعة من دماء الشهداء بداية النصر الآتي.