د. عبدالله عيسى/ كاتب لبناني
نبضت بيروت، وتحديدًا مدينة كميل شمعون الرياضيّة، بالحياة الطيّبة من جديد، سرت فيها روح سيّد شهداء الأمّة السيد حسن نصرالله من عليائه وبكل نقائه، حتى ازدهت بوارف غرسه وفيء أمانه.
لقد وهب بسخائه الفذّ ورمزيّته القدوة الأصالة والمعنى والطاقة لأجيال أحبّها وأحبّته، لطالما شغفه لقاؤه بها وشغفته، حمل همّها فألهمها واهتدت به، إلى أن غدت لائقة بإبراز "نموذج الطهر" رسالةً في القدوة والانضباط وإدارة الحياة وفقًا للنموذج التربويّ الأسمى كما أرسى مرساها أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم، منوّهًا بأنّهم"رواد المستقبل المشرق بالاستقامة والعدالة"؛ وقد بايعته تلك الأجيال بأبهى مبايعة، بجمال وجلال مدهشين.
لم يكن صباح 12 تشرين الأول 2025 كغيره من الأيّام في لبنان، لقد أشرقت شمسه على حقائق الصمود الإعجازي الكبير المستمر بالصبر والغموض الإستراتيجيّين، وسطعت على الأجيال تمتشق روح المقاومة ولا تهزم.
رسائل بين النار والنور
تمضي "أجيال السيّد" على العهد مرصوصة البنيان، على الرغم من آلة القتل الإسرائيليّة والحصار الأميركيّ-الإرهابيّ والتواطؤ الرسميّ الخانع للإملاءات واحتلال الأرض وأسر المواطنين وارتكاب الاغتيالات وممارسة الاعتداءات شبه اليوميّة، وليس آخرها قصف وسائل إعادة الإعمار المدنيّة وترويع الآمنين؛ حيث شنّ الطيران الحربي الإسرائيليّ سلسلة غارات مكثفة ومتتالية استهدفت معارض ومواقع لصيانة الآليات الهندسية الثقيلة (الجرافات، البوكلن، الآليات والجبالات) على طريق مصيلح-النجّارية، فجر السبت 11 تشرين الأول، فكانت الدلالة السريعة، مسافة يوم واحد بين النار والنور، بين العدوان والأمل، بين الهيمنة والمقاومة، ولا شيء آخر في البين، فالدبلوماسيّة والرعاة الدوليّين لتفاهم 27 تشرين الثاني 2024 وميكانيزم القرار 1701 ليسوا إلا أدوات مخادعة في منحى عدواني خطير ينشد قيام "إسرائيل الكبرى".
بزغ النور، أينع حصاد السنوات الأربعين على تأسيس جمعيّة كشّافة المهدي، ليكون بين العيد والشهادة ولادة جديدة، بنى السيدان "حسن نصرالله" و"هاشم صفي الدين" في الأجيال عمارة المستقبل، وشيّدا ثقافة المقاومة، وأورثا الأجيال حكمة بأن المقاومة ليست مجرّد فكرة أو عملية محكمة متوقّفة على عمل عسكري أو أمنيّ؛ بل هي نزوع فطريّ ومشروع مجتمعيّ وبديل حضاريّ في آن.. إنها الثقافة والعقيدة الراسخة رسوخًا تاريخيًّا متجذرًّا، منذ أكثر من 1400 عام، في حركة التاريخ لجماعة ناهضة ومؤسّسة ومتفاعلة في هذا الوطن بعيدًا عن تشويه الماضي وتزويره وأبطاله الوهميّين.
أسهم "السيّد" "شهيدًا" هذه المرّة، بالارتقاء بهذه الجمعية إلى مصاف المنافسة العالميّة، بعدما راكم من خلال توجيهاته السنويّة فنون ترسيخ أصالتها وتدعيم صلابة بنيتها وتثوير إرادتها وحركيّتها للنهوض بمسؤولية تربية الأجيال وتلبية المجتمع المقاوم المؤمن بالأفراد الصالحين.
لقد كشفت مراسم هذا اليوم العظيم، عن رساميلها السياسيّة والاجتماعيّة والرمزيّة والفنيّة وهي تبرز نبلها وشرعيّتها وبيعتها الصلبة، وتترجم قوّتها ووحدتها التنظيميّة، وتمنح الصورة أبعادها الوافية بحرفيّة عالية.
لقد تجلّى أضخم تجمع كشفيّ في لبنان والعالم في حدث في "حقل" يجمع بين التربية والسياسة، ومحوريّته النهج المقاوم دفاعًا عن العقيدة والوطن، وهي أمانة في أعناق الأجيال. لم يكن مجرّد "جمهرة" عابرة؛ إنما تعبير عن مجتمع ديناميّ الحضور في الميادين كافة، يحفل بالرسائل الرمزيّة، رسالة الى حرب الإبادة وأسيادها، رسالة إلى أهل الارتهان للإملاءات، رسالة إلى الشرفاء والأحرار بتجديد مشهدية التشييع العظيم بكل دلالاته العميقة.
العدد مفتاح التوازن
اجتمع الكشفيّون، من مناطق جبل عامل الأولى والثانية والبقاع والضاحية والعاصمة وجبل لبنان وشماله، فكانت مراسم "أجيال السيّد" اختزانًا مكثّفًا لكلّ أيام الله الجميلة التي جرت على عين "نصرالله" وتحت عناية وعباءة "السيّد الهاشميّ".. فكان هذا التجمّع النادر متماهيًا مع إحيائيّة "نادرة زمانه" رمز المقاومة العالميّ؛ وكان هذا اليوم يومًا للقدس ويومًا للوعد الصادق، ويومًا عظيمًا لأولي البأس؛ استعاد مع تلك الأيام وأخواتها ذلك "العنفوان" بأقصى دلالاته الرمزيّة.
احتشد الشهداء في أرجاء هذه المدينة يرفعونها إلى مراتب أسمى من أهل الأرض بأرقى ما في الطفولة وريعان الشباب من ملائكيّة.
صدحت حناجر أجيال "تسمو وتمهّد"، فتجسّد الرعب الناعم على الأعداء، والأمل القادم للأوفياء وأهل الفداء؛ والعبور المشذّى من "عتبة" الصمت إلى "فعل" الوجود.
يمكن للبنان الوطن أن يتباهى، فقد احتل المرتبة الأولى مسجّلًا مشاركة 74475 كشفيًّا (ما يزيد عن 70% من إجمالي العديد العام)، وفقًا لما أعلنه رئيس الجمعيّة القائد "نزيه فيّاض"، وهو رقم قياسي يتفوّق على التجمّع الكشفيّ في الهند في العام 2022م (55 ألفاً بمشاركة 13 دولة في العالم، أنظر: https://www.scout.org )، وبأضعاف سبعة مزيدة على التجمّع الكشفيّ المحلّي في "جبيل" في العام 1973 بمشاركة دول وممثلين عن جمعيات مختلفة.
استهلت العروض بالفرقة القرآنيّة والفريق الإنشادي قرابة 180 شخصًا (ذكور وإناث)، ثم فرقة الموسيقى المركزيّة النافخة 275 شخصًا ثم فرق الطنبور التي ضمت 780 شخصًا (غير مسبوق)، ثم سرايا الحلقات الكشفيّة (كل سرية 100 شخص)، الأشبال ممثّلة لـ 13609 أشبال، كشافة ممثّلة لـ 16646، الجوالة ممثّلة لـ 16336، قادة ممثّلة لـ 6435، وسريّة خدمة المجتمع. أما سريّة الموسيقيين فهي ممثّلة لـ 1700 (مؤلّفة من جوالة وقادة ومتضمنة في عديدهما)، وسرايا الزهرات ممثّلة لـ 10027، المرشدات ممثّلة لـ 13822، الدليلات ممثّلة لـ 11160، القائدات ممثّلة لـ 4699، وسريّة تنمية مجتمع، براعم مشتركة 40 (ذكور وإناث) ممثّلة لـ 12300.
هذه الأعداد، بطبيعة الحال، لها أوزانها الديموغرافية وجغرافيّتها البشريّة، وهي زاخرة بالنوعيّة والمواهب، وقد فاضت بنماذج قيادية وبفعالية مهارية في الميادين الحياتيّة كافة؛ ويمكن قراءتها على أنها ثقل إستراتيجي للاجتماع السياسيّ اللبنانيّ المقاوم، له تمركزه وانتشاره في لبنان وخارجه.
إن العدد النوعيّ ليس أمرًا عابرًا؛ بل هو في هذا الزمن الصعب، "ضرورة للتوازن" في وطن توهّم بعض ساسته سهولة القفز فوق كرامة أهل التضحية إرضاءً لرغبات السلطة وتماشيًا مع "القاتل" وموازين القوى الجديدة. ولو كانت السلطة اللبنانيّة جديرة بالمسؤوليّة لحظي هذا التجمّع الكشفي الراقي والمنظّم والأضخم عالميًّا بالعناية والاهتمام والاعتزاز الوطنيّ.
من جانب آخر ومختلف، يمكن القول بخلاصة لا مبالغة فيها، لقد سقط الغرب رمزيًّا، في مدينة كميل شمعون الرياضيّة، شعبيًا ورياضيًا وكشفيًا، عند التشييع المبارك للسيّدين، وعند الموقف الشجاع بوجه أمناء الهيمنة الأمريكية والعدوانية الإسرائيلية في لبنان، وعند بيعة أجيال السيد للشيخ القاسم.