حسين خليفة (لبنان 24)
استثنائية كانت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى "إسرائيل"، حيث أعاد تصدير نفسه كعرّاب لـ"اتفاق غزّة" ومسار التسويات الإقليمي، بيد أنّه بالغ في الوقت نفسه في الإشادة برئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، الذي شنّ حرب إبادة استمرّت عامين كاملين على قطاع غزّة، وفتح على هامشها جبهات متعدّدة على امتداد الإقليم، من لبنان وسورية مرورًا باليمن وصولًا حتّى إلى إيران.
وحضر لبنان في صلب خطاب ترامب أمام "الكنيست" الإسرائيلي"، إذ أعلن دعمه لما وصفه بـ"نزع سلاح حزب الله وحصره بيد الدولة"، معتبرًا أن لبنان "يقوم بعمل رائع على هذا الصعيد". ولم يكتف ترامب بالحديث عن البعد الأمني، بل ذهب إلى التبشير بعصر جديد من الروابط الاقتصادية بين "تل أبيب وبيروت، والقدس ودمشق، ودبي وحيفا"، في إشارة واضحة إلى رغبته في إدماج لبنان ضمن مشهد التطبيع الاقتصادي والسياسي المستجد في المنطقة.
وواشنطن تتولاها الدبلوماسية الأميركية بهدف نزع سلاح حزب الله تدريجيًا، إلا أنّ أهميته تكمن أيضًا في توقيته المتزامن مع لحظة حساسة في المشهد اللبناني الداخلي والإقليمي، على وقع الهدنة في غزّة، ووسط ارتفاع منسوب القلق من تصعيد على الجبهة الشمالية، ما يجعل كلام ترامب يتجاوز الدلالة الخطابية إلى البعد العملي المرتبط بمسار التفاوض المقبل.
ترامب يثبّت المعادلات المستجدّة
منذ أشهر، بات الخطاب الأميركي إزاء الملف اللبناني واضحًا، يكرّره الموفدون الذين يزورونه بين الفينة والأخرى، وآخرهم توم براك ومورغان أورتاغوس وقوامه أنّ المعالجة الجذرية لمسألة سلاح حزب الله هي مفتاح الحلّ، وهو الذي لم يعد مصنّفًا بين المحظورات بعد الحرب "الإسرائيلية" الأخيرة، والخسائر التي أحدثتها على مستوى الحزب، وقد تلقّفت الدولة اللبنانية ذلك بوضوح، وهو ما تجلّى برفع شعار "حصر السلاح بيد الدولة".
وإذا كانت هذه الرؤية تصاغ على شكل "وساطة ضاغطة"، تهدف إلى دفع بيروت نحو تفاهم جديد يُحصر بموجبه القرار الأمني في يد الجيش، مقابل ضمانات بإعادة الإعمار ورفع جزء من العقوبات وتفعيل الدعم المالي للمؤسسات الرسمية، فإنّ زيارة ترامب إلى "إسرائيل" أعادت على ما يبدو تثبيت هذه المعادلة على نحو أكثر صراحة، بقوله إنّ "حزب الله هو خنجر ضرب "إسرائيل" وأنهيناه"، وفق تعبيره.
عمليًا، يندرج الكلام الأميركي ضمن إستراتيجية مزدوجة: تكثيف الضغط على حزب الله، وفي الوقت نفسه إظهار دعمٍ سياسي للرئيس جوزاف عون والحكومة من أجل المضيّ بالإجراءات التنفيذية لخطة سحب السلاح، وقد وصلت إل البحث في آليات التنفيذ، لا المبدأ فقط، ولو أنّ
الأميركيين لا يزالون يشتكون بأنّ الأمر لا يزال في الإطار الكلامي، وأنّ أيّ خطوات ملموسة وجدّية لم تتّحذ بعد برأيهم.
أين لبنان من مسار التسوية؟
بالتزامن مع زيارة ترامب إلى "إسرائيل"، كان الرئيس جوزاف عون يقدّم مقاربة مغايرة في الشكل لكنّها متقاطعة في الجوهر. ففي مواقفه الأخيرة، أكد أن على "إسرائيل" "وقف عدوانها على لبنان ليبدأ مسار التفاوض"، ومعتبرًا أن التفاوض برعاية أميركية وأممية ليس سابقة، بل تجربة ناجحة أفضت إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية. وشدّد على أنّ لبنان لا يمكن أن يبقى خارج "مسار تسوية الأزمات في المنطقة"، مشيرًا إلى أن الحرب لم تعد وسيلة لإنتاج نتائج سياسية.
وفي حين أعلن بصراحة أن "لا أموال حاضرة الآن لإطلاق عملية إعادة الإعمار"، نفى أن تكون المساعدات التي وافق عليها الكونغرس الأميركي مرتبطة بمسألة سحب سلاح "حزب الله". وبهذا المعنى، يحاول عون رسم خط وسط بين خطاب التهدئة والتمسك بالسيادة، فلبنان وفق المقاربة التي يحرص على تقديمها، مستعد للتفاوض والتسوية، لكنّه يربط ذلك بشرطٍ أساسي هو وقف العمليات العسكرية "الإسرائيلية" وضمان مظلة دولية للتفاوض.
إلا أنّ المشكلة التي قد تظهر هنا تكمن في الخطط "الإسرائيلية" المضمرة التي يخشى البعض انها تسير في الاتّجاه "المعاكس"، في ظلّ تقارير صحافية عبرية تدعو إلى "توجيه الأنظار نحو الشمال"، في خطاب يعكس مزاجًا إسرائيليًا يميل إلى استثمار الهدوء في غزّة لفرض واقع جديد في الجنوب اللبناني. ومن هنا تنبع المخاوف من أن يكون التصعيد خيارًا بديلًا عن التسوية، أو ورقة ضغط إضافية على الحكومة اللبنانية للقبول بالشروط الأميركية و"الإسرائيلية".
في المحصلة، تبدو المرحلة المقبلة مفتوحة على احتمالين: إما أن تنجح الوساطة الأميركية في إنتاج تفاهمٍ جديد يضمن وقف النار ويؤسس لحصر السلاح ضمن إستراتيجية دفاعية لبنانية متفق عليها، أو أن تُستغل اللحظة السياسية الراهنة للضغط الميداني وإعادة فرض الشروط بالقوّة. وفي الحالتين، يبقى لبنان أمام مفترق حساس، حيث تتقاطع خطابات واشنطن وتل أبيب وبيروت على أرضٍ واحدة، عنوانها الأمن والاستقرار، لكن بأجندات متباينة.