اوراق مختارة

يوم في عامين تصديًا للأسطورة الصهيونية

post-img

سعيد يقطين/ جريدة القدس العربي

كان رد المقاومة الإيجابي، يوم الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 2025، على اقتراح ترامب لإطلاق سراح المختطفين وإيقاف الحرب مزلزلا. أثار ردود أفعال وتساؤلات وارتباكات. وقبل أن أتمعن في التفاصيل، وما يمكن أن تؤول إليه الأمور مستقبلا رأيته موقف اللحظة المناسبة. وأهم ما فيه هو أنه أسقط أسطورة إسرائيل الكبرى، وأبرز أن أيا من أهداف نتنياهو واليمين المتطرف وغير المتطرف لم تتحقق تحت النار والقصف المتواصل ليل نهار، ومن الجو والبر والبحر. لم يفرج عن الأسرى بقوة السلاح، ولا بالقضاء على حماس والمقاومة، ولا بتهجير الغزيين، ولا بالبحث لهم عن ملاجئ خارج أرضهم، ولا بتحويلها إلى ريفييرا ترامب، ولا بضم الضفة وفق ما كان يتطلع إليه بن غفير ومستوطنوه الذين مدهم بالسلاح والعتاد، لفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين. وكان الاتفاق على وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر دالا على انهيار الأسطورة الصهيونية. كما أن تبادل إطلاق المعتقلين والمحتجزين يوم 13 أكتوبر بداية لصيرورة جديدة.

سمَّيتُ السابع من أكتوبر «الحدث الأكبر» في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولم أتردد منذ البداية في الاقتناع بأن ما سماه نتنياهو «نكبة كبرى» جديدة سيكون واقعيا بالفعل، لأني رأيت فيه تمريغا لأنفه في وحَل سَيوْحَل فيه، وأنه كان قاصمة الظهر لكل تطلعاته وأساطيره، ولن يخرج منه منتصرا، رغم مكابداته، وتنطعاته، وممارساته الإبادية. كان مزهوا بأن قطار التطبيع دقت صافرته، وأنه يلملم أشياءه للانطلاق. وبذلك كانت القضية الفلسطينية ستصبح، حقيقة، لا واقعيا فقط، في خبر كان. لم يتحمل الحدث الأكبر، وجن جنونه وأتباعه. وحين نقول نتنياهو فنحن لا نشخص المسألة، فما هو سوى وجه لتطبيق الإرادة الأمريكو ـ صهيونية في المنطقة.

كما لعب الإعلام العالمي دورا كبيرا في إعطائه الضوء الأخضر لسحق «الإرهابيين» الذين قتلوا الأبرياء، واغتصبوا النساء، واختطفوا إسرائيليين. وكان الحديث عن حماس لا يتم إلا من خلال الإدانة والتحريض ضدها وإدانتها، بل ساهمت الدول الغربية في تأكيد شرعية إسرائيل في القيام بأي شيء لاسترجاع المختطفين. ومدتهم بالعتاد والسلاح والمرتزقة. ولم يكن الموقف العربي ولا حتى الفلسطيني داخل الضفة خارجا عن هذا الإجماع. ومما سيظل يذكر في تاريخ الحروب، والتضحيات الشعبية، والقدرة على الصمود في مواجهة أقوى قوة في العالم، وهي أمريكا التي لم تكتف بدعم إسرائيل، بل ظلت تقوم بكل حِيَلها وحَيْلها لممارسة الإبادة والتقتيل والتجويع، ورفع الفيتو ضد أي إدانة لها، بل معاقبة كل من تسول له نفسه الإساءة لإسرائيل في المحافل الدولية.

مرّ عامان انقلب فيهما السحر على الساحر، وبدا للعالم الحر أن ما تقوم به إسرائيل ومعها أمريكا، ليس تحريرا لمحتجزين، ولكنه إبادة وتطهير عرقي، وتدمير لكل مقومات الحياة في غزة. وبدأت إسرائيل تجني من الشوك الحصرم الذي أدى بها إلى عزلة قاتلة على المستوى العالمي، وبات العلم الفلسطيني الذي ظل مخفيا في السراديب لتغطى به جثة القضية بعد تحقيق أهداف نتنياهو وزبانيته، يرفرف في الشوارع والساحات الأوروبية والعالمية. لقد وصلت الأسطورة الشخصية الصهيونية إلى الطريق المسدود، بينما صارت الأسطورة الشخصية الفلسطينية واقعا يؤكد أن الروح الوطنية التاريخية تعلو على كل أكاذيب وافتراءات الأسطورة الشخصية، التي انبنت على أساطير توراتية ودينية عنصرية وتطهيرية.

كان يوم واحد كافيا لاقتحام قلعة الصهيونية الفولاذية التي ظلت لا تقهر. وكان عامان من الصمود الاستثنائي أمام الآلة الجهنمية، التي لا تبقي ولا تذر دافعين في اتجاه تحطيم الأسطورة الشخصية للصهيونية، وإيقاف كل الأباطيل والافتراءات التي ظلت تتدثر بها أكثر من سبعين عاما. كما أنها كشفت الوجه البشع والمتوحش للصهيونية أمام العالم أجمع، فتيقن الجميع أن وصفها للفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية لا ينسحب إلا عليها، بل إن الحيوانات أشرف منها، لأن الأكثر وحشية فيها لا يقتل حين يجد ما يسد به جوعه. أما هم فتعطشهم للدماء وجوعهم للتدمير لا حد له. وكلما رأوا الدماء والتدمير ازداد نهمهم إلى المزيد. علاوة على تلك الوحشية الخاصة، يمكننا من خلال هذين العامين، استخلاص أن الأيديولوجيا الصهيونية ترتكز على مبادئ ذرائعية لا أخلاقية، ولا إنسانية تجد مرتكزها في أن تكون صهيونيا وإن لم تكن يهوديا (كما قال بايدن)، أو لا تكون. وهي قولة المتغطرس بوش: أن تكون مع أمريكا أو ضدها.. وما هذا الكعك الفاسد إلا من ذاك العجين العطن.

علاوة على الوحشية والغطرسة تتصف الصهيونية بأنها بلا ثقة ولا ذمة ولا ملة. فهي بلا صديق، وأصدقاؤها هم من يوالونها، ومتى بدأت تشك في موالاتهم تضحي بهم، وتتخلى عنهم، وتفضحهم. إن فلسفتها الكبرى: أنا وبعدي الطوفان. ولتحقيق تلك الأنا المتعالية تسخر كل الإمكانات المادية والرقمية والاستخباراتية، وتوظيف العملاء والخونة لتقسيم الوطن العربي والإسلامي بزرع فتنة الهويات والأقليات والطائفية، داخليا. وبإيقاظ النعرات والصراعات المفتعلة على الحدود التي خلفها الاستعمار بين الدول العربية للإبقاء على وجودها، متفرجة على منجزاتها في نشر الفرقة، وإدامة الصراعات، واستدامة التخلف.

كما لم تتحمل الصهيونية صاعقة اقتحام طوفان الأقصى، لا يمكنها بلع وقف إطلاق النار. فهل ستستفيد من الدروس القاسية لشهر أكتوبر، وتتنازل عن أساطيرها، وتفتح صفحة جديدة مع جيرانها حفاظا على أمن المنطقة بتحقيق سلام دائم؟ أم أنها ستظل حاملة غصتها متحينة الفرص والذرائع للرجوع إلى تاريخها التطهيري والإبادي؟ كانت الصهيونية تتحدث عما بعد تحقيق أسطورتها الشخصية في غزة والضفة، فماذا سيكون عليه الحال بعد سقوطها؟ إنه سؤال جديد في صيرورة ما كان لها لتكون لولا طوفان الأقصى: الحدث الأكبر والتاريخي بامتياز، الذي أبرز أن القضية العادلة لا تعدم مهما كانت محاولات إعدامها، ومهما كانت المؤامرات، والخيانات، والتواطؤات.

 

 

 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد