فادي الحاج حسن / كاتب لبناني
في خضم التطورات المتسارعة التي يشهدها قطاع غزة، في الأشهر الأخيرة من العام الحالي (2025)، وتحديدًا بعد التوصل إلى "اتفاق غزة"، والمشار إليه أحيانًا بــ"اتفاق شرم الشيخ" لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، برزت ظاهرة استراتيجية لافتة: التفويض الوشيك لقوة دولية متعددة الجنسيات للعمل داخل القطاع.
إن هذه الخطوة، والتي تفرضها الضرورة الأمنية والإنسانية، لا يمكن قراءتها بمعزل عن سياقها الأوسع الذي يكشف فشلًا استراتيجيًا ذريعًا حصده الكيان الصهيوني في تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب الطويلة والمكلفة ضد حركة المقاومة الفلسطينية "حماس". إن الحاجة إلى قوة أجنبية لحفظ الأمن، في منطقة يفترض أن الكيان قد سيطر عليها عسكريًا، هي في جوهرها إعلان ضمني، حتى إنه صريح، عن هزيمة الكيان الصهيوني وعجزه عن فرض إرادته أو تأمين مصالحه منفردًا.
هذه النقاط تثبت أن وجود قوات متعددة الجنسيات، في قطاع غزة، هو تتويج للهزيمة الإسرائيلية
بنود "اتفاق غزة 2025" وقراءة في ميزان القوى الجديد
جاء هذا الاتفاق بعد أشهر من الصراع، ليؤكد أن الكيان الصهيوني لم يتمكّن من تحقيق "النصر المطلق" الذي وعد به قادته. وتشير التقارير إلى أن الاتفاق، والذي عُقد بوساطة دولية وإقليمية مكثفة (مصر، قطر، الولايات المتحدة)، تضمن بنودًا رئيسة تعكس ضغوطًا هائلة على "تل أبيب"، وتؤكد فشلها في فرض شروطها الكاملة.
تتمثل البنود التي تعكس فشل الحسم العسكري على الشكل الآتي:
1. الإفراج عن أسرى إسرائيليين مقابل عدد كبير، وربما غير مسبوق، من الأسرى الفلسطينيين. هذا البند يمثل اعترافًا ضمنيًا بـقوة فصائل المقاومة وقدرتها على الصمود والمساومة، ويؤكد أن الكيان لم يستطع تحرير أسراه إلا عبر التفاوض، وهو ما يقوض نظرية "الجيش الذي لا يُقهر" مجددًا؛ وكذب نتنياهو المستمر ووعودها الفارغة لذوي الأسرى المستوطنين باسترجاع أبنائهم بالقوة.
2. انسحاب القوات الإسرائيلية الجزئي التدريجي من مناطق معينة في القطاع، والسماح بعودة النازحين الفلسطينيين إلى شماله ووسطه. هذا الانسحاب، والذي جاء تحت ضغط دولي وميداني، يقوض فكرة سيطرة الاحتلال العسكرية الكاملة، ويترك فراغًا أمنيًا وإداريًا لا يمكن له أن يملأه بنفسه.
3. التعهد بفتح المعابر وإدخال المساعدات وإطلاق عملية إعادة إعمار واسعة تحت إشراف دولي. هذا البند يضع عبء الفشل الإنساني على عاتق الكيان، ويجعل عملية إعادة الإعمار ورقة ضغط دولية إضافية ضده.
إن مجرد الاضطرار إلى التفاوض على هذه الشروط، بعد التدمير الشامل والجهد العسكري كله، يمثل فشلًا استراتيجيًا في تحقيق هدف "القضاء على حماس"، ويؤكد أن المقاومة نجحت في تحويل الصمود إلى ورقة تفاوضية قوية، وهو جوهر هزيمة العدو السياسية والعسكرية. لقد أثبت الاتفاق أن الكيان لم يستطع تحويل تفوقه العسكري الكمي إلى نصر سياسي نوعي.

قوات متعددة الجنسيات والمستفيد من حمايتها
إن النقاش حيال نشر قوة دولية متعددة الجنسيات، في قطاع غزة، بموجب تفويض أممي أو اتفاق دولي، يثير تساؤلات جوهرية عن طبيعة عمل هذه القوات والطرف الذي تحميه فعليًا: هل هي حماية لغزة من العدوان أم حماية لــ"إسرائيل" من تبعات فشلها؟ والسؤال الأكثر إلحاحًا: ما هو فعليًا عمل هذه القوات في غزة؟
يُعلن أن عمل هذه القوات يتمحور فيمهام حفظ السلام وتأمين وصول المساعدات الإنسانية والإشراف على عملية إعادة الإعمار، وربما المساعدة في تدريب قوة أمنية فلسطينية بديلة غير تابعة لحماس لإدارة القطاع. لكن في التحليل الاستراتيجي، يكمن عمل هذه القوات الفعلي في ملء الفراغين الأمني والإداري الذي فشل الكيان الصهيوني في سدّ فجواته العميقة وتوفير غطاء دولي لترتيبات أمنية جديدة.
يأتي سؤال آخر: من تحمي هذه القوات غزة أم الكيان الغاصب؟
في الواقع، إن هذه القوات تحمي المصالح الإسرائيلية، بشكل أساسي، وإن كان ذلك ضمنيًا:
1. "إسرائيل" غير قادرة على تحمّل تكلفة احتلال قطاع غزة الأمني الطويل والمباشر، سواء من ناحية الخسائر البشرية أم الاقتصادية أم الضغط الدولي. والقوات المتعددة الجنسيات توفر "منطقة عازلة" أمنية بتكلفة دولية، وتسمح لــ"إسرائيل" بالانسحاب من دون ظهورها بمظهر المنهزم الذي ترك خلفه الفوضى.
2. تخشى "إسرائيل" فراغًا أمنيًا يؤدي إلى فوضى غير منضبطة أو عودة سريعة لسيطرة فصائل المقاومة. لذلك تأتي القوة الدولية لتعمل أداة لــ"الاحتواء غير المباشر" وتضمن عدم تحول غزة إلى مصدر تهديد فوري بعد الانسحاب الجزئي.
3. وجود قوة دولية في القطاع يمنح شرعية دولية للترتيبات الأمنية الجديدة، ويخفف من عزلة "إسرائيل" الدولية، لتزعم أنها جزء من "حل دولي"، وليست الطرف الوحيد المسؤول عن الكارثة.
أما حماية غزة؛ فهي تأتي نتيجة ثانوية لعمل هذه القوات بتأمين المساعدات ومنع الانهيار الإنساني الكامل، لكن الهدف الاستراتيجي الأعمق هو خدمة الأجندة الإسرائيلية-الأمريكية لــ"اليوم التالي" بعد الحرب.
لماذا تحتاج "إسرائيل"، وهي التي تصف نفسها "دولة" ولديها أقوى جيش في المنطقة، إلى قوات أجنبية في قطاع غزة؟
الإجابة تكمن في ثلاثة أبعاد للهزيمة التي لا يمكن إنكارها:
1. الهزيمة العسكرية والفشل في الحسم والسيطرة
أ- هدف الحرب المعلن كان القضاء على حماس؛ لكن الكيان لم يتمكّن من تدمير بنية المقاومة التحتية، بشكل كامل أو القضاء على قدرتها على إطلاق الصواريخ أو القتال. لذلك؛ الانسحاب الجزئي والقبول بوجود قوة دولية هو اعتراف بعدم القدرة على البقاء في مواجهة حرب استنزاف طويلة، وتأكيد بأن المقاومة نجحت في تحويل وجودها إلى معضلة أمنية لا يمكن حلها عسكريًا.
ب- أظهرت التجربة أن أي وجود عسكري إسرائيلي مباشر ومستمر في غزة سيتحول إلى مستنقع، ما سيكلف جيش الاحتلال الإسرائيلي خسائر بشرية واقتصادية لا يمكن تحمّلها على المدى الطويل. لذلك؛ الاستعانة بقوات أجنبية هو محاولة لــ"خصخصة" تكلفة الأمن في غزة، وتحميلها للمجتمع الدولي.
2. الهزيمة السياسية والعجز عن فرض البديل
أ- فشلت "إسرائيل" في إيجاد أو فرض سلطة فلسطينية بديلة موثوقة ومقبولة لإدارة القطاع. إذ رفضت السلطة الفلسطينية القدوم على "دبابة إسرائيلية"، ولم تجد "إسرائيل" عشائر أو قوى محلية قادرة على الحلول محل حماس. هذا الفشل السياسي يثبت أن القوة العسكرية وحدها لا يمكن أن تخلق واقعًا سياسيًا مستدامًا.
ب- الضغوط الدولية، خاصة من الولايات المتحدة، كانت حاسمة في الدفع نحو اتفاق وقف لإطلاق النار وتشكيل قوة دولية. هذا التدخل يمثل تقييدًا لما يُسمّى "السيادة الإسرائيلية" على قرارها الأمني في المنطقة المجاورة، وإن الكيان الذي يرفض أي تدخل خارجي في شؤونه الأمنية، يجد نفسه مضطرًا للقبول بـ "وصاية أمنية دولية" غير مباشرة.
3. الهزيمة الأخلاقية والإنسانية وفقدان الشرعية الدولية
أ- حجم الدمار والكارثة الإنسانية في غزة وضع "إسرائيل" في قفص الاتهام الدولي، وجعل استمرار سيطرتها المباشرة أمرًا غير مقبول دوليًا. وجود القوة الدولية، في هذا السياق، هو محاولة لــ"تطهير" المشهد الدموي من المسؤولية المباشرة وإعادة بناء صورة الكيان متعاونًا مع المجتمع الدولي بدلًا من صورة المعتدي.
ب- إن مجرد الحاجة إلى قوة أجنبية لتأمين الحدود ومنع عودة الصراع يمثل تآكلًا خطيرًا لمفهوم "الردع الإسرائيلي". هذا يبعث برسالة مفادها أن الكيان، على الرغم من قوته التدميرية، لا يمكنه إدارة المنطقة بمفرده، فهو يعتمد على مظلة دولية غير مباشرة.
في التحليل الاستراتيجي، تُعد الحاجة إلى قوة أجنبية لحماية مصالح دولة ما، في منطقة الصراع، دليلًا قاطعًا على فشل تلك الدولة في تحقيق أهدافها بالقوة الذاتية. لذلك؛ وإن كنا لا نعترف بــ"إسرائيل" دولة، فإن وجود قوات متعددة الجنسيات في قطاع غزة، سواء أكانت عربية أم دولية، هي البرهان الأكبر على هزيمتها الاستراتيجية. لقد اضطرت إلى التفاوض مع خصم تعهدت بإزالته، ثم الانسحاب الجزئي من مناطق سيطرت عليها والقبول بقوة أجنبية لحماية حدودها وتأمين مصالحها، وهذا ما يمثل تجريدًا من "السيادة الكاملة" على قرارها الأمني في المنطقة المجاورة.
هذا هو جوهر الهزيمة الاستراتيجية التي تبرز بوضوح، في مشهد غزة اليوم، وإن ضعف سيطرة الكيان عليها، وحاجته إلى تدخل دول خارجية لا يعزز الهزيمة فحسب، يكرسها أيضًا حقيقة استراتيجية جديدة في تاريخ صراعنا التاريخي ضده.