أحمد الشَّهّال (التحري نيوز)
لم يكن توصيف لبنان بـ”الدولة الفاشلة” مجرّد تصريحٍ عابر لرجل أعمالٍ أميركي من أصولٍ لبنانية، بل جزءًا من خطابٍ سياسيٍّ متكامل يُراد منه إعادة صياغة النظرة إلى لبنان وموقعه في الإقليم.
صاحب هذا التصريح، توم براك، ليس مجرّد مستثمرٍ عقاري، بل أحد الواجهات الاقتصادية البارزة للشبكات الأميركية – الخليجية التي تدير مشاريع مالية وعقارية ضخمة تمتدّ من الساحل الشرقي الأميركي إلى الخليج وشرق المتوسّط.
عُرف براك بقربه من الدوائر الضيّقة في واشنطن، وبخاصةٍ من الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب، حيث تولّى مهام غير رسمية تتعلّق بتأمين الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة، وإدارة مصالح اقتصادية ذات طابعٍ سياسي في المنطقة.
وقد أُوكلت إليه، في مراحل متعدّدة، أدوارٌ تتجاوز العمل التجاري إلى التنسيق الاقتصادي – الأمني بين واشنطن والرياض وأبو ظبي، بما يخدم إعادة رسم الخريطة المالية والاستثمارية في الشرق الأوسط، من مصر إلى لبنان مرورًا بسوريا وتركيا.
من هذا المنطلق، لا يمكن فهم كلام براك إلا ضمن وظيفةٍ سياسيةٍ أوسع؛ فهو يعكس وجهة نظر مركز القرار الأميركي الذي يرى في لبنان نموذجًا مستعصيًا على “إعادة الضبط”، بفعل حضور قوى مقاومة ترفض الاندماج الكامل في منظومة الهيمنة الأميركية.
ومن هنا يأتي توصيف “الدولة الفاشلة” كجزءٍ من استراتيجية الضغط المعنوي والسياسي، تمهيدًا لتبرير مزيدٍ من التدخّل والإشراف المالي المباشر، سواء عبر المؤسسات الدولية أو عبر مبادراتٍ إقليميةٍ تحمل طابع “الإصلاح والمساعدة”.
ولا يمكن فصل هذا الخطاب عن جوهره السياسي المتعلّق بالمقاومة، إذ يشكّل الضغط عليها أحد الأسباب الرئيسة وراء توصيف لبنان بالفشل. فالمطلوب ليس فقط إخضاع النظام المالي والاقتصادي، بل ضرب البيئة الوطنية التي تحتضن خيار المقاومة، وتحويلها إلى بيئةٍ تابعةٍ خاضعةٍ للرقابة والتمويل الخارجي، تُدار بآليات “الوصاية الاقتصادية” تحت عناوين “الإصلاح” و”الشفافية”.
لكنّ الوقائع تشير إلى أنّ السياسات التي أنتجت الانهيار لم تكن لبنانيةً صِرفة، بل وُضعت وجرت إدارتها بإشرافٍ مباشر من المنظومة الأميركية – الخليجية التي هيمنت على القرار المالي والاقتصادي منذ مطلع التسعينات.
فمن خلال حكوماتٍ تعاقبت على الحكم، كان مركز القرار الاقتصادي الحقيقي في يد المصارف الكبرى وحاكمية مصرف لبنان، بإشرافٍ من المؤسسات المالية الأميركية وشركائها المحليين.
وقد بُني النموذج اللبناني على الاستدانة والريع والخدمات المالية، لا على الإنتاج الوطني، ما جعل الاقتصاد هشًّا ومعتمدًا على الخارج في كلّ مفاصله.
أما في البعد الاجتماعي، فقد شكّل ملفّا اللجوء الفلسطيني والنزوح السوري أداتين فعّالتين في الضغط على لبنان.
فالدول نفسها التي تدعم مشاريع التوطين وتدفع نحو تثبيت النزوح هي التي ترفض تحمّل أيّ كلفة مالية أو سياسية لذلك، لتترك لبنان أمام أزمةٍ خانقةٍ تتجاوز قدرته الاستيعابية، ثمّ تعود لتُحمّله مسؤولية “فشله” في إدارتها.
إلى جانب ذلك، لا يمكن تجاهل حجم النفوذ الأميركي في مؤسسات الدولة اللبنانية.
فمن القضاء إلى الأجهزة الأمنية والمصرفية، ومن الوزارات إلى الجمعيات المموّلة، يتكرّس حضور واشنطن عبر ما يُسمّى بـ”برامج الدعم التقني” التي تتحكّم فعليًّا بمفاصل القرار العام.
وبذلك، يصبح توصيف لبنان بـ”الدولة الفاشلة” تبريرًا لإدامة هذا النفوذ، لا دعوةً للإصلاح.
الحقيقة أنّ ما فشل هو النموذج الذي فُرض على لبنان: نموذج التبعية المالية والسياسية، لا الكيان اللبناني نفسه ولا مجتمعه.
فالشعب اللبناني، رغم الأزمات والانقسامات، ما زال يمتلك قدرةً استثنائيةً على الصمود، ويواصل الدفاع عن أرضه وكرامته، ويعيد إنتاج نفسه كلّ مرةٍ رغم محاولات الإفقار والتيئيس.
إنّ ما يجري اليوم هو إعادة تعريفٍ للبنان في الخريطة الإقليمية الجديدة: بلدٌ يُراد له أن يفقد استقلال قراره الاقتصادي والسياسي، ليُدار من الخارج باسم “الإصلاح” و“الشفافية”، فيما الحقيقة أنّ المقصود هو ضمان بقائه في موقع التبعية ضمن النظام المالي العالمي بقيادة واشنطن.
من هنا، فإنّ الردّ على هذا الخطاب لا يكون بالمناكفة اللفظية، بل ببناء مشروعٍ وطنيٍّ مستقلٍّ يقوم على الإنتاج والعدالة الاجتماعية والسيادة المالية والسياسية، وتحميه مقاومةٌ واعيةٌ لدورها التحرّري، تضع حدودًا واضحةً لأيّ وصايةٍ اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ خارجية.
فالفشل الحقيقي ليس في لبنان، بل في منظومة السيطرة التي تديره منذ ثلاثة عقود باسم “المجتمع الدولي”.